مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شتاءها الثالث، بدأت الجهات التنظيمية الغربية المكلّفة بتنفيذ العقوبات ضد موسكو تتنبه أخيراً إلى نشاطات روسيا لإنتاج أو شراء الأسلحة ومعداتها. رغم القيود التي فرضها الغرب على تصدير المعدات العسكرية وعناصرها الأساسية، كثّفت روسيا إنتاج جميع أنواع الأسلحة، بدءاً من الطائرات المسيّرة والصواريخ الجوالة التي تقتل المدنيين الأوكرانيين، وصولاً إلى المركبات القتالية والمدفعيات المستعملة لاستهداف القوات الأوكرانية على جبهة القتال. في غضون ذلك، تتعدد التقارير التي تشير إلى إنتاج أسلحة روسية جديدة ومليئة بالقطع الغربية.
يريد داعمو أوكرانيا في الغرب وقف جميع الإمدادات العسكرية التي تتلقاها روسيا، وحرمان الكرملين من قدرته على شراء التقنيات العسكرية، وزيادة التكاليف المفروضة على المجمع الصناعي العسكري الروسي. فيما تُهدد الحرب باستنزاف المخزون الغربي الخاص بمعدات مثل الذخائر، تتصاعد الضغوط لتغيير التوازن القائم بين ما يقدّمه الغرب لأوكرانيا والمعدات التي تستطيع روسيا تصنيعها بنفسها أو شراءها من مصادر أخرى، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية. نتيجةً لذلك، يُفترض أن تعطي الجهات التنظيمية الغربية الأولوية لمنع روسيا من التحايل على قيود التصدير لتأمين الإمدادات التي تحتاج إليها ومتابعة شن الحرب.
منذ شباط 2022، فرضت الولايات المتحدة و37 بلداً آخر قيوداً واسعة النطاق على صادرات روسيا، لكن تأخّر تطبيقها. نجحت روسيا في التحايل على تلك القيود عبر خليط من التكتيكات، أبرزها إعادة توجيه الواردات الأساسية عبر بلدان ثالثة أو نقاط أخرى لإعادة الشحن، وإخفاء بيانات الجمارك، واستعمال كيانات مدنية بالوكالة لإعادة توجيه السلع نحو شركات عسكرية. وبما أن الإنتاج العسكري الروسي يتكل بشدة على القطع الأجنبية، أصبحت الشركات المسجّلة في البلدان التي لا تشارك في تطبيق العقوبات (مثل الصين، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة) معاقل أساسية لإعادة تصدير التكنولوجيا الغربية.
أدى التركيز على سلاسل إمدادات الأسلحة إلى عودة قيود التصدير إلى قائمة الأولويات الغربية، بما يشبه الجهود المبذولة في الحرب الباردة لمنع الاتحاد السوفياتي من الحصول على التقنيات الغربية. لكن أصبح نطاق المنتجات المؤثرة اليوم أكبر بكثير من الأهداف التقليدية والمعدات العسكرية ذات الاستخدام المزدوج. تشمل قائمة المنتجات الأساسية راهناً مجموعة واسعة من السلع الصناعية والاستهلاكية مثل محركات الديزل، والكاميرات الرقمية، والأجهزة الكهربائية، وهي منتجات يمكن استعمالها لتصنيع الأسلحة، ما يزيد صعوبة تعقب الصادرات.
لتحسين طريقة تنفيذ العقوبات وكبح قدرة روسيا على إعادة تزويد جيشها بالمعدات، كثّفت دول مجموعة السبع مراقبتها لشركاتها. أصدرت الجهات التنظيمية عدداً من التوجيهات والإنذارات لحماية الشركات من المخاطر المتزايدة التي تُسببها انتهاكات قيود التصدير. هكذا أصبح القطاع المالي مجدداً في واجهة الحرب الاقتصادية. بعد هجوم 11 أيلول، تحولت المؤسسات المالية إلى أداة أساسية تستعملها الجهات التنظيمية الغربية لرصد انتهاكات العقوبات. تستطيع السلطات الأميركية مثلاً أن تستعمل تفوّق الدولار وسيطرة الولايات المتحدة على معظم جوانب النظام المالي العالمي لعزل خصوم مثل إيران. وفي ظل استعمال نظام «سويفت» لتسهيل الدفع حول العالم، قد يتعقب المنظمون والمحققون الأميركيون التحويلات المالية ويفرضون سياسة العقوبات الأميركية خارج حدودهم الإقليمية. أثبتت التجارب التي تلت هجوم 11 أيلول أن مراقبة الصفقات المالية جعلت تطبيق العقوبات ورصد الانتهاكات أسهل من محاولة تعقب حركة السلع.
بدأ تحوّل مماثل يتحقق اليوم على مستوى تفعيل العقوبات ضد روسيا، فقد زادت الضغوط على القطاع المالي لتحسين مراقبة انتهاكات قيود التصدير. وفي خطوة غير مسبوقة، أصدر مكتب الصناعة والأمن وشبكة مكافحة الجرائم المالية ثلاثة إنذارات مشتركة لتحذير المؤسسات المالية حول ضرورة الإبلاغ عن الصفقات المشبوهة أو أي تصرفات شائكة أخرى والكشف عن تكتيكات روسيا المستجدة للتهرب من العقوبات. تشمل المؤشرات التحذيرية تغيير معاملات الدفع في اللحظة الأخيرة، ورفض العملاء تقديم المعلومات حول المستخدم النهائي، وغياب أي أثر على وجود الأطراف المعنية بالصفقة على شبكة الإنترنت.
لتحسين فاعلية قيود التصدير، نشأ ائتلاف دولي جديد في حزيران الماضي وحمل اسم «وحدة تفعيل قيود التصدير الخماسية» (أستراليا، بريطانيا، كندا، نيوزيلندا، الولايات المتحدة). أصدرت هذه المجموعة توجيهات مشتركة لتنسيق جهود تطبيق قيود التصدير ومنع وصول معدات أساسية إلى روسيا عبر بلدان ثالثة. يسمح هذا التطور المستجد بنقل أعباء الامتثال من المصدّرين إلى القطاع المصرفي. من واجب المؤسسات المصرفية اليوم أن تكثّف تدابير العناية الواجبة تزامناً مع الالتزام بالعقوبات المفروضة. قد تترافق هذه العملية مع طلب وثائق إضافية، منها شهادات وعقود خاصة بالمستخدم النهائي، فضلاً عن رصد أي صفقات غريبة أو غير طبيعية.
يبدو أن هذه الضغوط بدأت تعطي ثمارها. بدءاً من شهر أيلول الماضي، أبلغت البنوك الأميركية الحكومة المحلية بحصول 400 صفقة مشبوهة. استعملت وزارة التجارة الأميركية تلك الإبلاغات التي تشير إلى نشاطات مشكوك بأمرها في ثلث تحقيقاتها، بما في ذلك قضية عن ثلاثة مواطنين روس اتُّهِموا بإرسال إلكترونيات أميركية دقيقة إلى روسيا عبر دول ثالثة. نتيجة التعاون الناجح بين الوكالات الحكومية الأميركية، مثل فرقة العمل «كليبتوكابتشر» و»القوة الضاربة للتكنولوجيا التخريبية»، كشف المحققون عدداً من شبكات الشراء غير الشرعية. شملت أحدث قضية من هذا النوع تخريب سلسلة إمدادات دولية لتزويد روسيا بأشباه الموصلات والإلكترونيات ذات الاستخدام المزدوج عن طريق الصين، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة.
في غضون ذلك، بدأ الاتحاد الأوروبي يكثّف جهوده تدريجاً للتحقيق بعمليات التهرب من العقوبات. في أواخر تشرين الأول، دانت محكمة في هولندا مواطناً يحمل الجنسيتَين الروسية والهولندية بتهمة بيع رقائق كمبيوتر بطريقة غير شرعية إلى شركات على صلة بقطاع الدفاع الروسي من خلال تغيير مسار الشحنات عبر المالديف. وفي شهر حزيران، كشف الاتحاد الأوروبي النقاب عن أداة لمكافحة هذا النوع من التحايل، وهي مُصمّمة كوسيلة ردع لمنع الدول الثالثة من تغيير مسار الشحنات. قد تسمح هذه الأداة للاتحاد الأوروبي، عند استعمالها بالشكل المناسب، بمنع تصدير السلع والتقنيات إلى بلدان ثالثة يرتفع احتمال التحايل فيها. من المنتظر أن تعالج حزمة العقوبات الثانية عشرة التي سيصدرها الاتحاد الأوروبي نقطة ضعف بارزة في عقوبات الاتحاد: إعادة تصدير السلع الأساسية. في حال إقرار هذا التدبير، ستضطر شركات الاتحاد الأوروبي أخيراً لإضافة بنود إلى عقودها لمنع تصدير قطع الأسلحة إلى بلدان ثالثة، كما يحصل في الولايات المتحدة منذ الآن. كذلك، حسّنت بروكسل تقنية تقاسم معلوماتها عبر جمع قوائم وطنية لقيود التصدير بين الدول الأعضاء. يسمح تنسيق قوائم قيود التصدير الوطنية بسدّ الثغرات القائمة عبر منع روسيا ومورديها من استغلال الاختلافات التنظيمية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي.
لكن للتفوق في لعبة القط والفأر المتواصلة بين قيود التصدير وعمليات التحايل المستمرة، يجب أن تعدّل دول مجموعة السبع مقاربتها. لن يكون نقل أعباء الامتثال إلى المؤسسات المالية كافياً لتقليص انتهاكات قيود التصدير تلقائياً. تفتقر البنوك إلى الخبرات التقنية الداخلية لتصنيع عناصر الأسلحة. في الوقت نفسه، قد تجيد إدارات الامتثال تطبيق قواعد التعرّف على العملاء، لكن من المعروف أن أنظمة البرمجيات التي تستعملها لا تجيد تحديد السلع ذات الاستخدام المزدوج أو رصد الانتهاكات الحاصلة، ما يعني أن البنوك والشركات الأخرى لا تستطيع إنجاز هذه المهمة وحدها، بل تبرز الحاجة إلى مقاربة حكومية شاملة. بدل أن تنقل الحكومات الأعباء إلى القطاع الخاص، يتطلب الوضع تحسين التنسيق في أسرع وقت على مستوى الجمارك، ووكالات مراقبة التصدير، والأجهزة الاستخبارية، والمؤسسات المالية، لتحديد جميع تفاصيل سلاسل الإمدادات ورصد تكتيكات التحايل.
على صعيد آخر، أصبح الرابط بين تبييض الأموال والتهرب من قيود التصدير قوياً جداً. يتكل المتهرّبون في المقام الأول على الشركات الوهمية أو الصُوَرية ومجموعة متنوعة من الهياكل الغامضة لإخفاء مظاهر ملكية الانتفاع. هذا الوضع يُصعّب على السلطات الحكومية والقطاع الخاص التدقيق بسلاسل الإمدادات. تستطيع السجلات العامة أن تعالج مشكلة ملكية الانتفاع، علماً أنها نقطة ضعف شائعة في مجال العقوبات وقيود التصدير. لكن لتحقيق هذا الهدف، يحتاج الاتحاد الأوروبي حتى الآن إلى القيام بواجباته عبر تحسين وضع السجلات العامة، وإيصال بيانات دقيقة وسهلة الاستعمال إلى جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، وتجديد التناغم بين قواعد ملكية الانتفاع. في بريطانيا، أصبح مشروع قانون الجريمة الاقتصادية وشفافية الشركات ساري المفعول في نهاية تشرين الأول، وهو يهدف إلى معالجة مشكلة الشراكات المحدودة المعروفة بغياب متطلبات الإيداع وشفافية الضرائب.
أخيراً، يجب أن تدرك الجهات التنظيمية الغربية أن روسيا تطبّق استراتيجية شاملة تقوم على الدمج بين القطاعات العسكرية والمدنية، بما في ذلك الاستغلال المنهجي للثغرات في مجال مراقبة الصادرات. تنشط المعاهد البحثية، ومجموعة الطاقة النووية «روس آتوم»، وشركات عملاقة في قطاع الطاقة مثل «غازبروم»، ومجموعة كاملة من الكيانات المدنية ظاهرياً، لنقل معدات ذات أولوية كبرى إلى شركات الدفاع الروسية. يحتاج الغرب إلى توسيع خياراته عبر فرض قيود شاملة على أي شركة تتعاون مع المجمع الصناعي العسكري الروسي والبيلاروسي.
كان القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوزني، محقاً حين ذكر أن نتيجة الحرب لن تتأثر بكمية الأسلحة التي يملكها كل طرف فحسب، بل بنوعيتها ومستوى تطورها التكنولوجي أيضاً. سيكون كبح انتهاكات قيود التصدير ومرتكبيها والمتواطئين معها في القطاع المالي خطوة أساسية كي تتحرر أوكرانيا من المأزق الذي تواجهه راهناً في ساحة المعركة.