هل تواكب مراكز الأبحاث والدراسات في لبنان المتغيرات المتسارعة في العالم والإقليم؟ فباستثناء المتخصصة منها بالشؤون الدولية، وعددها محدود، تبدو الغالبية منشغلة بالشؤون المحليّة. وإذ يفرض حدث خارجي نفسه، يغدو السؤال عن المواكبة مطروحاً وملحّاً، خصوصاً لجهة تداعيات ذاك الحدث على الداخل واستجابة الأبحاث والدراسات للمتغيرات. الدكتور مكرم عويس، مدير «المركز اللبناني للدراسات» (Lebanese Center for Policy Studies (LCPS، يجيب عن ذلك، ويضيء على المشاكل والصعوبات التي تواجه مراكز الأبحاث والدراسات في لبنان، لا سيما منذ الانهيار الاقتصادي والمالي والأزمة السياسية والاجتماعية التي انفجرت في أواخر العام 2019. ويكشف انعكاسات غياب الدولة ومؤسّساتها وهجرة المتخصصين والكفاءات، وإشكالية التمويل، على عمل الأبحاث والدراسات.
تتسارع الأحداث والمتغيّرات في العالم، وتفرض نفسها على البلدان والمجتمعات عموماً، هل تواكب مراكز الأبحاث في لبنان ذلك، أم أن ما يجري في الكوكب أسرع منها؟
هناك اهتمام بهذا الأمر. وثمة مراكز دراسات وأبحاث متخصصة في الشؤون الدولية، ولكن المنتج الذي يواكب محدود، كما أعتقد، وتراجع عمّا كان في السابق، على الرغم من أهمّيته وضرورته. ولعل هذا الاتجاه سينشط نتيجة وضع المنطقة. الأبحاث والدراسات في السنوات الأربع الماضية انكبت على الداخل اللبناني لأن الوضع حكم بذلك. كيف نخرج من الأزمة الاقتصادية والمالية، وكورونا، ووجود اللاجئين السوريين، وانفجار مرفأ بيروت؟ فليس ما مرّ به لبنان أمراً سهلاً. لدينا ثلاث أزمات اقتصادية ومالية: انهيار العملة، الاقتصاد المدمر والقطاع المصرفي. ويقول الباحثون إنّ قلة من البلدان تقع في ذلك كلّه. إجمالاً، ينهار القطاع المصرفي لكن يبقى الاقتصاد، أو تنهار العملة لكن يبقى القطاع المصرفي. نحن عندنا ثلاث أزمات معاً. لهذا، قال البنك الدولي إن الحالة اللبنانية من أسوأ الحالات في ثلاث بلدان منذ 150 سنة. لم يقل هذا بخفّة ومن دون دراسة.
وفي هذا السياق، ألفت إلى أن العمل الديبلوماسي في لبنان تقلّص نتيجة الانقسامات الداخلية بين الأفرقاء، ولم يُعطَ الوزن والاهتمام اللازمين. اليوم، ليس لدينا سياسة واضحة تجاه بلدان المنطقة والعالم، بما في ذلك البلدان العربية، وحتى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي.
في ما يخصّنا كمركز، ليس لدينا جانب يتعلق بالعلاقات الدولية، علماً أنّنا نشتغل مع بعض البلدان على مواضيع معينة. مثلاً، الآن، نعمل على موضوع الطاقة البديلة مع بلدان عدة في المنطقة لنقيّم أين أصبحنا في هذا الموضوع وكيف يمكن للطاقة البديلة أن تفيد المؤسسات الخاصة المتوسطة والصغيرة.
إزاء التغيّرات والأحداث الدولية والإقليمية، وفيما تركّزون على الداخل اللبناني، ماذا تفعلون؟
لكل مؤسّسة إطار وتوجهات. هناك مراكز أبحاث ودراسات متخصصة بالخارج أو بالشؤون الدولية. وهناك مراكز معنية بالشؤون المحليّة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. نحن مثلاً لا نكتب عن الخارج إلا إذا كانت القضايا مرتبطة بأمر داخلي ضمن القضايا التي نعمل عليها. وإزاء وضع دولي وإقليمي كالذي نمر به مثلاً، نسأل ونبحث وندرس تداعيات ذلك على الداخل اللبناني.
وهناك أمر لا بد من الإضاءة عليه وله علاقة بقدرات المؤسسات، لأن معظم المؤسسات في لبنان اليوم مرتبط بجهات تمويل خارجيّة نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب. وفي بلدان كثيرة في العالم، تحصل مراكز الأبحاث والدراسات على دعم من الدول أو من مؤسسات وجهات محلية، لكنّ ذلك محدود في لبنان، والحجم الأكبر من التمويل خارجي. ومشكلة التمويل الخارجي أن أولوياته تتغير. ومقابل هذا، علينا ألا نغيّر أولوياتنا. يجب أن نبقى منسجمين مع أولوياتنا. هذا أمر يؤثر. ولا أتكلم عن المنحى السياسي إنما عن الأولويات العملية. الأكيد أن العنصر السياسي حاضر في هذه المسألة، لكنّه جزء وليس الكل.
دعني أفسر: إذا كان لدينا مانحون مستعدون لدعم دراسات لها علاقة بموضوع اللاجئين السوريين، هذا الأمر يمكن أن يتغير إذا صار هناك لبنانيون مهجرون. هنا، تتغير الأولويات وتتأثر الأبحاث والدراسات. نحن نحاول قدر الإمكان أن نحافظ على مسار دراسات غير مقيد بالتمويل الخارجي، لكنه محدود، لأن الإمكانيات محدودة.
هناك أمر آخر هو أن مراكز الأبحاث والدراسات تأثرت بالوضع الاقتصادي مثل كل المؤسسات والأفراد في لبنان. المؤسسة التي كانت تحفظ بعض المال لتغطية قضايا خارج الأولويات، هذه الأموال طارت أو حُجزت أو باتت بلا قيمة في ظل انهيار العملة.
إضافة إلى الأحداث والمتغيّرات الخارجية، وتبدّل أجندات التمويل، والوضع الاقتصادي الصعب في لبنان، كيف هي حال عمل الدراسات والأبحاث؟
العمل البحثي في لبنان متأثر بالظروف العامة. فأولويات المسؤولين والأشخاص المؤتمنين على الشأن العام متّجهة إلى أماكن أخرى. وهذا يؤثّر على متطلّبات الأبحاث والدراسات، وعلى قدرة الباحثين على الوصول إلى المعلومة ومعالجة المواضيع. مثلاً، إذا ما أردت إعداد دراسة عن البرلمان اللبناني والتشريع، وهناك وضع إقليمي يؤثر على الوضع الداخلي، وكان البرلمان متوقفاً عن العمل التشريعي، فكيف سيعمل الباحث؟ هذا الوضع يؤثر على قدرة مراكز الأبحاث والدراسات على الاستمرار في عملها الذي يهدف إلى تطوير الدولة ومؤسساتها. ولدينا قلق من أن تتحول الأبحاث والدراسات التي نعدّها إلى وصف الوضع بدلاً من الدفع نحو التطوير والتحسّن.
وليس الأمر أن الأولويات السياسية للمسؤولين في واد ومتطلبات البحث في واد آخر فحسب، هناك مشاكل أخرى. فالدولة شبه معطلة، ومؤسساتها بموازنات محدودة لا تكفيها، وجزء كبير منها بات يعتمد على التمويل الخارجي. ونحن من مراكز الأبحاث التي تعمل لتقديم اقتراحات مبنية على أبحاث ودراسات ميدانية لتطوير السياسات، ما يعني أننا بحاجة إلى آذان صاغية في الدولة لتتفاعل معنا ويأخذ عملنا مجراه الطبيعي. وهذا الأمر غير متوافر الآن.
وقد استجد أمر خطير على لبنان عموماً وعلى قطاع البحث والدراسات والعمل الأكاديمي ضمناً، وهو هجرة المتخصصين والخبراء. هناك كثيرون من الباحثين والأساتذة الجامعيين وطلاب الدراسات العليا قد إضطروا إلى الهجرة، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية، والأزمة السياسية، والأوضاع الأمنية لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت. وبتنا نجد صعوبات في إيجاد باحثين متخصصين لدراسات في مجالات عدة. وإمكانات مراكز الأبحاث والدراسات، ونحن منها، محدودة كي تتمكن من وقف هذا النزيف وتقديم رواتب مجزية أو استيعاب عدد كبير. لكننا، على الرغم من الصعوبات، نحاول أن نبقى على تواصل مع متخصصين من الفئات كلّها، من خلال التعاون معهم وإن كانوا في الخارج. وهذا الأمر مفيد لنا راهناً، ولعله مفيد للباحثين الذين نتعاون معهم، وهو حاجة استراتيجية على المدى البعيد، إذ يبقيهم على صلة بالبلد، ما يشجعهم ربما على العودة لاحقاً. وعلى الرغم من ذلك، نواجه صعوبات في هذا المجال، إذ إن ابتعاد الباحثين عن البلد يفقدهم التواصل المباشر مع الواقع، ما يحد من قدراتهم، خصوصاً إذا ما كانوا مرتبطين بأعمال حيث يقيمون. وهذا يجعل كثيرين من الباحثين غير قادرين على قبول التكليف بالأبحاث والدراسات، إضافة إلى أننا أصلاً نحتاج إلى من هم قادرون في البلد على القيام بالعمل.
وماذا تفعلون لتجاوز هذه الأزمة وتوفير الحاجات؟
لا حل سحري. فالبحث والدراسة لا يقومان من دون الموارد البشرية. لكن هناك إجراءات قد تُخفف المشكلة. بعض تلك الإجراءات تخص كل مركز على حدة، مثل تنويع مصادر التمويل كي نتمكن من الاستمرار وتوسيع مروحة عملنا لتغطي المطلوب من البحث والدراسة. وهناك إجراءات ربما تلجأ إليها المراكز، مثل زيادة التنسيق في ما بينها. فالتنسيق حالياً محدود. هناك تعاون بين مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات والمنظمات غير الحكومية والجمعيّات، لكنه غير ممأسس ومتقطّع.
ولا يقل عن هذا أهميّة تشجيع الجيل الشاب من الباحثين الذين يفدون إلى العمل بمؤهلات جامعية وبحماسة كبيرة لخدمة الشأن العام وتطوير مؤسسات الدولة واقتراح سياسات. وفيما نحرص على ذلك، تواجهنا مجموعة صعوبات، منها ما يتعلّق بقدراتنا التي يمكن أن نقدّمها لهم، ومنها ما له صلة بهجرة هذه الفئة إما لمتابعة دراساتها الجامعية وإما للعمل الذي باتت فرصه محدودة في لبنان.
في ظل غياب الآذان الصاغية لكم في الدولة، أنتم لا تعملون لذلك فحسب، بل تنشرون أبحاثكم ودراساتكم على موقعكم، فكيف يتفاعل الجمهور معها؟
على الرغم من حرصنا على أن ننشر منتجاتنا المتخصصة بأسلوب يسهل على غير المتخصصين، إلا أن الغالبية الساحقة من المتلقّين هي من المتخصصين. تقصدنا مؤسسات ومنظمات غير حكومية لبنانية وأجنبية للحصول على منتجاتنا أو على معلومات أو على رأي متخصص في شأن يعنيها أو تجري دراسة بخصوصه. وتصلنا آراء وتعليقات في شأن دراساتنا وأبحاثنا التي ما زالت جادة وتحظى باحترام. كذلك يوزّع المركز دراساته خلال المؤتمرات التي ينظّمها أو يشارك فيها، وعبر مقالات ينشرها في وسائل الإعلام، إضافة إلى المقابلات الصحافية مع مؤسسات إعلامية لبنانية وأجنبية.
لا ميول سياسية... إنما
تأسس «المركز اللبناني للدراسات» في عام 1989. وقد بادر إلى ذلك، وفق مديره مكرم عويس، «مجموعة من الكتاب والباحثين والمفكرين والأساتذة الجامعيين بهدف بناء مؤسسة تنتج أعمالاً تساعد في الخروج من الحرب (1975- 1990) وإعادة إعمار البلد ودعم المبادرات التي يمكن أن تؤدي إلى الإصلاح سواء أكان ذا طابع إقتصادي أو سياسي أو اجتماعي».
وساهم المركز، بحسب عويس، «في دعم مبادرات عديدة في المجتمع المدني لتطوير بعض المفاهيم، ومنها الديمقراطية والانتخابات والمساءلة والمحاسبة وغير ذلك».
ويركز المركز على أربعة محاور، هي: الحوكمة، الاقتصاد المستدام، القضايا الاجتماعية للفئات المهمشة والتي تعيش ظروفاً صعبة مثل المهجرين والنازحين، والبيئة. وتتضمن هذه المحاور الأربعة أبعاداً أربعة أيضاً، هي: البعد الجندري، الشباب، عمليات حل النزاع المرتبطة بهذه المجالات والتكنولوجيا.
وقد جعل المركز «لبنان للجميع» هدفاً أو عنواناً له. وينطلق في ذلك، كما يقول عويس، من «وعي أن هذه المرحلة أنتجت شرخاً في المجتمع، وولدت فئات جديدة مهمشة أو ذات وضع صعب نتيجة المشاكل الاقتصادية وانهيار العملة وكل ما نعاني منه منذ أربع سنوات، بل منذ 2015».
ويقول عويس: «تركّز مقاربتنا على عنوانين، أولاً الإضاءة على القضايا الماسة التي يجب أن نرفع الصوت بشأنها وندعو إلى التركيز عليها، ومنها وضع التربية والصحة؛ وثانياً تقديم سياسات أو اقتراحات لسياسات على المدى القريب وإلى حد ما المدى المتوسط، كي يتمكن المسؤولون في البلد والمؤثرون في السياسات العامة من أكاديميين وإعلاميين وغير ذلك من مواكبة الأبحاث والدراسات.
وفيما يؤكد عويس أن «ليس للمركز من ميول سياسية»، يؤكد أنه «مع بناء مؤسسات خالية من الفساد والتدخلات وتطويرها».