فهيم تاستيكين

السيناريو السوري... هل يتكرر في ليبيا؟

5 حزيران 2020

المصدر: Al Monitor

02 : 00

هل سيؤدي الصراع الليبي إلى مواجهة جديدة بين تركيا وروسيا، على غرار ما يحصل في سوريا؟ يطرح الكثيرون في تركيا هذا السؤال منذ الاجتماع الأمني الطارئ الذي دعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأسبوع الماضي، على خلفية توجّه الطائرات الحربية الروسية من سوريا إلى ليبيا. أدى وصول الطائرات الروسية إلى تعقيد حسابات تركيا بعدما صادر حلفاؤها قاعدة جوية أساسية بالقرب من طرابلس، فانقلبت موازين الحرب بفضل الدعم التركي العسكري والاستخباري.

أدركت أنقرة منذ وقت طويل أن روسيا هي القوة المحورية التي ستتعامل معها في ليبيا، مع أنها وجّهت تحذيرات إلى مصر والإمارات العربية المتحدة باعتبارهما من أبرز داعمي القائد المتمرد خليفة حفتر وجيشه الوطني الليبي. اتّضح هذا الوضع منذ كانون الثاني الماضي، حين أصبحت موسكو أول مرجع لأنقرة بعدما وقّعت على اتفاقيتَين أساسيتَين مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس وحصلت على الإذن من البرلمان لنشر الجنود في ليبيا. لكن انهارت محاولة أخرى تهدف إلى عقد اتفاق بين تركيا وروسيا لوقف إطلاق النار في 14 كانون الثاني، حين رفض حفتر التوقيع على الاتفاق، فتجاهل بذلك موسكو التي دعمت الجيش الوطني الليبي عن طريق الشركة العسكرية الخاصة "واغنر"، تزامناً مع الحفاظ على علاقاتها الديبلوماسية مع حكومة الوفاق الوطني.

وفي إشارة أخرى إلى الضغوط التي تتعرض لها أنقرة للتعامل مع موسكو، إتصل أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 18 أيار، يوم استولى حلفاء تركيا على قاعدة الوطية الجوية، ثم حذا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حذوه بعد يومين، فاتصل بنظيره الروسي سيرغي لافروف. لكنّ وصول الطائرات الروسية إلى ليبيا غيّر الوضع مجدداً.

في 21 أيار، أعلن وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني أن ست طائرات من طراز "ميغ-19" وطائرتَين من نوع "سو-24" حلّقت من قاعدة حميميم الجوية في سوريا نحو قواعد حفتر في شرق ليبيا. وفي اليوم نفسه، هدد قائد القوات الجوية التابع لحفتر بإطلاق "أكبر حملة جوية في تاريخ ليبيا"، معتبراً أن "جميع المواقع التركية قد تصبح أهدافاً مشروعة".

وبحسب القسم التركي من قناة "بي بي سي"، كان توجّه الطائرات الحربية التركية نحو قاعدة الوطية من بين الخيارات التي خضعت للنقاش في أنقرة بهدف التصدي للتفوق الجوي.

ركّزت الصحافة الموالية للحكومة بدورها على الشكل الجديد من التحديات الروسية في ليبيا. فكتبت صحيفة "هابرتورك": "تظن أنقرة عموماً أن روسيا لن تجازف بخلق أزمة مع حلف الناتو عن طريق تركيا. يقال إن طيارين مصريين سيشغّلون الطائرات التي أرسلتها روسيا. لا تنوي أنقرة الانسحاب من المنطقة، بغض النظر عن الكلفة التي تتكبدها. رغم احتمال التعرض للهجوم إذاً، هي تحاول تطوير قدرتها على الرد انطلاقاً من قاعدة الوطية التي ستشهد قريباً نشوء مركز للتنسيق العسكري". على صعيد آخر، أعلنت صحيفة "يني شفق" التركية أن طائرات "إف-16" قد تقلع من ساحل بحر إيجة أو المتوسط في تركيا للرد على أي اعتداء ضد المواقع التركية في ليبيا.



منزل متضرّر بعد قصف قوات حفتر على حيّ سكني في منطقة أبو سليم جنوب طرابلس، ليبيا، 28 شباط 2020



قَلَبت تركيا موازين القوى ضد حفتر في الأشهر الستة الماضية، وقد تلقّت دعماً إضافياً من الولايات المتحدة وحلف الناتو. وكإثبات على الدعم الأميركي للحلفاء الأتراك، تواصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والسفير ريتشارد نورلاند مع رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج في الأسبوع الماضي. وفي بيان خطّي، هاجمت السفارة الأميركية في طرابلس "القوى التي تحاول فرض نظام سياسي جديد (في ليبيا) بالوسائل العسكرية أو عن طريق الإرهاب"، وأضافت أن "الولايات المتحدة تفتخر بعقد شراكة مع الحكومة الليبية الشرعية والمعترف بها في الأمم المتحدة"، أي حكومة الوفاق الوطني.

حذرت "القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا" ("أفريكوم") من جهتها من المخاطر الأمنية التي يطرحها نقل الطائرات الروسية إلى ليبيا. في بيان صدر في 26 أيار، أعلن قائد "أفريكوم"، الجنرال ستيفن تاونساند، أن الطيارين المرتزقة الروس سيقودون تلك الطائرات. لكن قال الجنرال جيف هاريغان، قائد القوات الجوية الأميركية في أوروبا وإفريقيا، إن "الخطوة الروسية المنطقية المقبلة" في ليبيا تقضي باستعمال أنظمة لتعطيل الوصول إلى المناطق، ما يطرح "مخاوف أمنية حقيقية على الجناح الجنوبي لأوروبا".

ربما ساهمت رسائل واشنطن وتحذيراتها في تقوية موقف أنقرة في ليبيا، لكنّ العامل الروسي يتطلب تقييم الوضع مجدداً. رغم التقارير التي تفيد بأن مرتزقة "واغنر" بدأوا ينسحبون من الخطوط الأمامية، لا مفر من أن يفرض "الاستعراض الجوي" الروسي والتحركات الديبلوماسية الروسية واقعاً جديداً قد يجبر أنقرة على التعاون مع موسكو. ربما يصبح الوضع المستجد نموذجاً متكرراً من الشراكة التركية الروسية في سوريا، حيث يحصل تداخل بين التعاون والمواجهة.

كخيارٍ بديل عن هذا التعاون الشائك، قد تطلق تركيا صراعاً مع روسيا أو تخوض روسيا مواجهة أخرى مع حلف الناتو. لن تكون تركيا ولا روسيا مستعدة لخوض صراع مباشر، لكن لا أهمية لهذا العامل في الحروب بالوكالة داخل ليبيا.

إستناداً إلى الظروف الراهنة، من المتوقع أن يفرض الردع العسكري مفاوضات جديدة بقيادة تركيا وروسيا.

قد يكون أي قرار تركي بمنع وصول روسيا إلى طرابلس مناسباً لحلفاء تركيا في الغرب، كما حصل في إدلب، لكنّ الشراكة التركية الروسية التي فرضتها الظروف قد تتحول إلى خيار مرفوض من جانب معسكر الناتو. سبق ودقّت فرنسا ناقوس الخطر، مع أنها تؤيد روسيا في موقفها الداعم لحفتر. في هذا السياق، أطلق وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان تحذيراً في 27 أيار فقال: "بدأت الأزمة تتعمق. نحن أمام نسخة متكررة من السيناريو السوري في ليبيا".

فرنسا قوة استعمارية سابقة في شمال أفريقيا، لذا تعارض أي دور مؤثر لتركيا في ليبيا. كذلك، أدرك حلفاء الناتو أن شراكة أنقرة مع روسيا في سوريا قد تتحول إلى معسكر دفاعي كامل بعدما اشترت تركيا الأنظمة الدفاعية الجوية الروسية "إس - 400".

بنظر مصر واليونان وقبرص المنتسبتَين إلى الاتحاد الأوروبي، قد تشير زيادة قوة تركيا في ليبيا (وقدرتها على فرض شروطها على طاولة المفاوضات) إلى انتكاسة في منافستها مع أنقرة على موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. قد تتوقع تركيا تحقيق مكسب كبير من أي تسوية سياسية في ليبيا، وهو يتمثل بالحفاظ على اتفاق الترسيم البحري الذي وقّعت عليه مع حكومة الوفاق الوطني في تشرين الثاني الماضي. لم تُسَرّ الولايات المتحدة من ذلك الاتفاق وقد عبّر سفيرها في اليونان عن ذلك الموقف مجدداً هذا الأسبوع.

تشعر القاهرة بالقلق أيضاً من تكرار السيناريو الكارثي المرتبط بتنامي نفوذ "الإخوان المسلمين" في ليبيا المجاورة، بفضل دعم تركيا التي كانت تؤيد حكومة "الإخوان" المخلوعة في مصر. أعربت إدارة دونالد ترامب من جهتها عن تفهّمها لهذه المخاوف المصرية.

قد تحصد أنقرة الإشادة لأنها تفسد حسابات روسيا، لكنّ اكتساب تركيا دوراً مؤثراً في ليبيا سيترافق مع تداعيات مختلفة على مجموعة متنوعة من اللاعبين.

صحيح أن المعادلة الليبية أصبحت أكثر تعقيداً مما توحي به، لكن لا تزال تركيا تثق بكل ما تفعله. أعلن المتحدث باسم الرئيس التركي، إبراهيم كالين، في 25 أيار: "فرنسا وكل من يتابع دعم حفتر يقف على الجانب الخاطئ من الصراع الليبي".

إذا انطلقت مفاوضات جديدة لإعادة توحيد ليبيا، ستتحمّل روسيا مسؤولية إقناع القوى الشرقية، أي مجلس النواب في طبرق بقيادة عقيلة صالح، والحكومة الموقتة بقيادة عبد الله الثني، وقوات حفتر. بدأت روسيا تبذل الجهود على هذه الجبهة منذ الآن.

في أواخر نيسان الماضي، كشف صالح أنه تعاون مع المستشارين الروس لوضع مسودة خريطة طريق سياسية تدعو إلى وقف الأعمال العدائية وتأسيس مجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء لتمثيل المناطق الليبية الثلاث الرئيسة وإنشاء حكومة وحدة وطنية جديدة، تزامناً مع اقتراح دور عسكري على الجيش الوطني الليبي. لكن أثارت خريطة الطريق تلك استياء حفتر ودفعته إلى إعلان نفسه الحاكم الأوحد لليبيا.

صحيح أن خسارة قاعدة الوطية أضعفت موقف حفتر، لكن اتصل لافروف بصالح في 26 أيار ودعاه إلى إقامة حوار بين الأفرقاء الليبيين. بدا وكأن دعوته أعطت ثمارها، فقد اجتمع صالح مع عدد من القادة التابعين لحفتر بعد يومين على ذلك الاتصال.

تثبت هذه التطورات كلها في المعسكر الشرقي أن الروس يستطيعون التأثير على التغيرات الميدانية. كذلك، تدين حكومة الوفاق الوطني بسيطرتها المستمرة على طرابلس للتدخل التركي، لكنها لم تعد اليوم في موقعٍ يخوّلها رفض النفوذ التركي الحاسم في ليبيا.


MISS 3