كريم مروة

في وداع رفيق العمر والدرب محسن ابراهيم

6 حزيران 2020

02 : 00

محسن ابراهيم
غادرنا، قبل أيام، رفيقنا الكبير محسن ابراهيم (أبو خالد) بعد معاناة مع المرض، أقعدته وغيّبته عن الحياة العامة على امتداد ما يقرب من ثلاثة أعوام. غادرنا، تاركاً لنا تُراثاً غنياً في الفكر والسياسة، في اقتحام ميادين المعرفة واقتحام الأحداث والمواقع التي احتلّها، مرحلة إثر مرحلة. لذلك، فإنّ الحديث عنه بعد غيابه، لا يُعبّر بكلام قليل، عن ذلك التراث الغنيّ لمسيرته، التي امتدت على ما يقرب من نصف قرن، أو يزيد.




لقد سبقني في الحديث عن محسن ابراهيم بعض أصدقائه ورفاقه. لكنّني سأحاول في هذه العجالة، من موقع المعرفة به، وبمسيرته التي أزعم أنني من أكثر الذين عرفوا تفاصيلها منذ خمسينات القرن الماضي، وتحديداً بالعلاقة المباشرة معه في أواسط الستينات. والمعروف أن محسن، كان منذ مطلع شبابه، مِقداماً وشغوفاً بالمعرفة، وساعياً للعب دور في الحياة السياسية. وكانت أول طريق الى ذلك عندما شارك مع القائد الفلسطيني التاريخي جورج حبش، ومجموعة من كبار ذلك التاريخ، فلسطينيين ولبنانيين وعرب، في تأسيس "حركة القوميين العرب". ولم يلبث بعد بضع سنوات، أن احتلّ موقع الأمين العام للحركة. وعندما التقينا لأول مرة في العام 1965، شاركنا القائد التاريخي الشهيد كمال جنبلاط، من موقعه في رئاسة الحزب "التقدمي الاشتراكي"، في تأسيس جبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية. كان محسن من موقعه في قيادة "حركة القوميين العرب" يُمثّل الحركة في الجبهة. وكنّا، الشهيد جورح حاوي وأنا، نُمثّل الحزب "الشيوعي اللبناني". وكان شركاء لنا، نحن مُمثلو الأحزاب الثلاثة، ثلاث شخصيات مستقلّة، هم نائب المتن الجنرال جميل لحود، ونائب صيدا معروف سعد، والسيدة نهاد سعيد، زوجة النائب الراحل أنطون سعيد ووالدة النائب السابق فارس سعيد. وكان تأسيس الجبهة في ذلك التاريخ حدثاً وطنياً مُهمّاً. وظلّت تتطوّر في نشاطها بقيادة كمال جنبلاط، الى أن تحوّلت في مطلع السبعينات الى "الحركة الوطنية اللبنانية" التي ضمّت في صفوفها عدداً من قادة الأحزاب الوطنية.

العلاقة بـ"القوميين العرب"

في ذلك التاريخ الذي بدأت فيه علاقتي بمحسن وعلاقة حزبنا بـ"حركة القوميين العرب"، واجهتنا مصاعب وإشكاليات، كان الأساسي فيها رغبة محسن ورفاقه في "حركة القوميين العرب"، بعدما كان وكانوا قد بدأوا يتحوّلون الى اعتناق الفكر الماركسي، في أن يتوحّد الحزبان على قاعدة الإنتماء الى الفكر الماركسي. وعقدنا يومذاك لقاءً، بدعوةٍ من محسن، بين مُمثّلي حزبينا، محمد كشلي ومصطفى بيضون وأنس سنو، باسم "حركة القوميين العرب" وجورج حاوي وجورج البطل وأنا باسم الحزب "الشيوعي اللبناني"، للبحث في هذا الموضوع. لم نستطع أن نتّفق، لأن محسن ورفاقه كانوا مُستعجلين بالإنتقال للعب دورٍ وطني باسم اليسار، وكنّا نحن نرى أن ذلك يحتاج الى زمن ضروري. إذ كنا في ذلك التاريخ بالذات في العام 1966 قد بدأنا ثورة لتجديد فكر الحزب وسياسته، للتمايز عن الحزب "الشيوعي السوفياتي" وضدّ تدخلاته في شؤوننا. لم يُسامحنا محسن ورفاقه على موقفنا المُشار اليه، وكتب يومها سلسلة مقالات في مجلة الحرّية، شنَّ فيها هجوماً عاصفاً على حزبنا، وما زلت أحتفظ بتلك المقالات في أرشيفي. لم نردّ عليه، لأننا كنا مُنشغلين في الإعداد لثورتنا. ثم تمرّ الأيام والأعوام، كان فيها محسن يتطوّر في مواقعه، وفي مواقفه، وفي علاقاته العربية، لا سيما مع الرئيس جمال عبد الناصر وحزب "الإتّحاد الاشتراكي"، ومع الفلسطينيين عندما بدأت الثورة، عقب هزيمة حزيران الشهيرة (العام 1967).

كنّا في ذلك الحين نُتابع باهتمام ما يجري في المنطقة. وكانت لنا مواقف كانت في البداية ضدّ الرئيس جمال عبد الناصر وثورة تموز الشهيرة، ثم بموقفٍ آخر دعماً للثورة وللرئيس عبد الناصر عندما حصل العدوان البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر في العام 1956 بعد تأميم قناة السويس. وكنّا نتابع في الآن ذاته، ما كان يقوم به محسن ورفاقه في دعم القضية الفلسطينية وفي دعم الجبهة القومية في اليمن الجنوبي وفي ثورة الغوفار. وكنّا نحن في "الحزب الشيوعي"، نُشارك الفلسطينيين في المقاومة في العمل الفدائي. والهدف من الحديث عن هذه المرحلة هو للتأكيد بأن محسن ابراهيم ورفاقه كانوا، رغم الإختلاف بيننا، يقومون بدورٍ شجاع في دعم الحركات الثورية في البلدان العربية، مُقترناً ذلك بتطورٍ مُتسارع في الإرتباط بالفكر الماركسي، الذي سُرعان ما جعل محسن ورفاقه يتحوّلون بقيادته الى تشكيل "منظّمة العمل الشيوعي" التي صارت هي المركز الأساسي لنشاطه ونشاطهم اللاحق، لا سيما في قلب "الحركة الوطنية اللبنانية".



رمز سياسي تاريخي



شخصية فذّة ومرموقة

كانت إذاً تلك البداية الصعبة شخصياً وحزبياً مع محسن ورفاقه. لكنّ المرحلة التي اقترنت بتشكيل "الحركة الوطنية"، أحدثت تغييراً جوهرياً في العلاقة بين حزبينا، بقيادته هو لحزبه، وقيادة جورج حاوي لحزبنا. وامتدّت تلك العلاقة بالاتّجاه الصحيح داخل "الحركة الوطنية" بقيادة كمال جنبلاط، لم تتأخّر في الإتّفاق على تعيين محسن الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنية. وكان جورج الى جانب محسن في العلاقة الوطيدة الإستثنائية مع كمال جنبلاط حتى استشهاده في العام 1978، كانوا يمارسون دورهم في المعارك المُتعدّدة، السياسية منها والمسلّحة، لا سيما مع الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.

منذ ذلك التاريخ، بدأت العلاقة بين حزبينا مع بداية الحرب الأهلية في الإتّجاه الذي كان يرمي الى تحقيق الوحدة المتكاملة بين حزبينا، تحقيقاً لما كان يطمح إليه محسن قبل عقدين من الزمن. وأشهد من معرفتي المُمتدّة خلال نصف قرن مع محسن، بأنه كان شخصية فذّة ومرموقة. وكان يتمتّع بقدُرة استثنائية على الحديث في الإعلام وفي المناسبات المختلفة، للتعبير عن مواقفه الفكرية والسياسية. وكان لجورج حاوي طريقته الفذّة في التعبير عن مواقفه، وكانا بهذا المعنى يتكاملان.

في الحرب الأهلية، كنّا باسم "الحركة الوطنية"، شُركاء في كل المعارك التي خضناها، وصولاً الى الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982. في ذلك التاريخ بالذات، وفي السادس عشر من شهر أيلول، أعلن الرفيقان جورج ومحسن، من منزل القائد الشهيد كمال جنبلاط، تأسيس "جبهة المقاومة الوطنية" ضد الغزو الاسرائيلي للبنان. وتابع الشيوعيون باسم الجبهة مُتضامنين مُتّحدين. وحقّقوا في مقاومتهم البطولية إنجازات تاريخية، تمثّلت في العام 1985 بطرد القوات الاسرائيلية من مختلف المناطق الى الشريط الحدودي. وفي ذلك التاريخ، ابتداءً من العام 1979، عام المؤتمر الرابع لـ"الحزب الشيوعي اللبناني"، كان يجري العمل بتسارع لتوحيد الحزبين. وكان الإعلان المشترك لجبهة المقاومة من قبل جورج ومحسن، هو أحد أشكال التعبير عن ذلك الإتّجاه. لكن الأحداث سُرعان ما غيّرت ذلك الإتجاه، إذ بدأ محسن، بعد مجيء القوات الأجنبية الى لبنان وتسلّم "حزب الكتائب" السلطة في البلاد، وخروج الفلسطينيين بموجب اتفاق فيليب حبيب بقيادة ياسر عرفات الى تونس، بدأ محسن يفقد تدريجياً الأمل بمستقبل لبنان، وقرّر أن ينتقل للعمل دعماً للقضية الفلسطينية الى جانب ياسر عرفات، تاركاً لرفاقه في "منظمة العمل الشيوعي" العمل مع رفاقهم في "الحزب الشيوعي اللبناني" في الحرب الأهلية وتبعاتها، وفي "المقاومة الوطنية" ضدّ الإحتلال الاسرائيلي. وبعدما توقّفت الحرب، بقرار عربي ودولي، وانتقل لبنان الى الوصاية السورية من أجل السلم الأهلي وتطبيق اتفاق الطائف، سارت في الاتجاه النقيض. إذ تحوّل السوريون في وصايتهم على لبنان، الى تعميق الخلاف بين الطوائف والأحزاب، لتعميق وتخليد سيطرتهم على لبنان. وكانت البداية في مطلع التسعينات، بمنع الشيوعيين بفريقيهما، من متابعة العمل المقاوم، بعدما كانوا قد دفعوا ثمناً باهظاً بالإغتيالات التي طالت عدداً من رموزهم الفكرية والسياسية، وعدداً من أبطال المقاومة. وكان هدف السوريين جعل المقاومة حكراً على "حزب الله".



ابراهيم مع نبيه بري ووليد جنبلاط وياسر عرفات



محسن الرمز الوطني

وخلال الأعوام اللاحقة، وفي ظلّ تلك الصعوبات المُتّصلة بالوصاية السورية، كان لمحسن دور مختلف في الشكل، مع البقاء في الجوهر هو ذاته، محسن الرمز الوطني والرمز اليساري في متابعة الأحداث، وفي تحديد المواقف السياسية التي كان مُقتنعاً بها لبنانياً وعربياً. وعندما استشهد جورج حاوي في العام 2005، كان لمحسن كلمة في الإحتفال التكريمي لجورج في الأونيسكو، حدّد فيها موقفاً، كان من أروع ما اقترن بفكر محسن. وكان أبرز ما جاء في كلمته، مراجعته النقدية للحرب الأهلية ولدور اليسار فيها، الحزب والمنظمة، ومراجعة نقدية جريئة لموقف الحزبين في إعطاء دور للمقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية، كان من نتائجه الكارثية ما أصاب الثورة الفلسطينية من جهة، وما أصاب لبنان حتّى هذه اللحظة من تاريخه يُعاني من نتائج ذلك الموقف. وهي مراجعة نقدية تُشكّل قمة في مواقف محسن الفكرية والسياسية. علماً بأننا كنا في "الحزب الشيوعي" قد قمنا بتلك المراجعة في الحرب الأهلية، وفي السياسة العامة للحزب في المؤتمر السادس العام 1992.

لقد حاولت في هذه العجالة في الحديث عن مسيرة هذا الرمز التاريخي للوطنية والقومية ولليسار، أن أُقدّم تلخيصاً مكثفاً لمسيرته، من موقع العلاقة التاريخية معه، استكمالاً لما كُتب عنه، وما سيُكتب. وأُنهي هذه العجالة بالقول بأن محسن ابراهيم سيبقى بعد غيابه الجسدي حياً في وجدان الوطن، وفي وجداننا نحن رفاقه وأصدقاؤه من أهل اليسار ومن الوطنيين اللبنانيين والعرب، لا سيما الفلسطينيين منهم.


MISS 3