عيسى مخلوف

في مواجهة آلة الحرب والموت!

25 تشرين الثاني 2023

02 : 00

تتواصل في الوسط الثقافي في العالم ردود الفعل على الحرب في غزّة، ويتزايد عدد الذين يستقيلون أو يُطردون من وظائفهم بسبب مواقفهم المناهضة لهذه الحرب. من هؤلاء، الشاعرة والباحثة آن بواييه، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، ورئيسة تحرير في «نيويورك تايمز»، ولقد قدّمت استقالتها من منصبها بسبب ما تعتبره تغطية منحازة. واتهمت بواييه الصحيفة باستخدامها «اللغة المعقولة» في رصد واقع «غير معقول»، واستعمال «أكاذيب حربيّة» و»كلمات مروّعة، لكن بأسلوب مموّه ولطيف». وقالت في بيان استقالتها أيضاً إنّ هذه الحرب «ليست حرب أحد، ولا تخدم الأمن داخل إسرائيل أو خارجها، في الولايات المتّحدة أو أوروبا». وأضافت: «إنّ الربح الوحيد من هذه الحرب هو الربح القاتل للمصالح النفطيّة ومصنّعي الأسلحة. العالم، المستقبل وقلوبنا، كلّ شيء يَضؤل ويصبح أكثر صعوبة. إنها حرب مستمرّة ضدّ الشعب الفلسطيني الذي قاوم عقوداً من الاحتلال والتهجير القسري والحرمان والمراقبة والحصار والسجن والتعذيب».

صوت آن بواييه صدى لأصوات تتكاثر يوماً بعد آخر معترضةً على الحرب وعلى التغطية الإعلامية التي تواكبها، والتي تتناول الصراع في الشرق الأوسط منذ عقود. في السياق نفسه، استقالت من «التايمز» الكاتبة جازمين هيوز التي وقّعت على بيان عنوانه «كتّاب ضدّ حرب غزّة» اعتبرته المجلّة انتهاكاً لسياستها التحريريّة.

كتّاب ومفكّرون كُثُر كسروا الصمت وأعلنوا جهراً عن مواقفهم. من هؤلاء الفيلسوف الإسباني بول ب. بريسيادو الذي انتقد في مقال نشرته صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسيّة «السياسة الاستعمارية والعسكرية التي تنتهجها إسرائيل»، وقال: «إذا لم يكن في استطاعتنا التعبير عن أنفسنا خوفاً من اتهامنا بـِ»معاداة الغرب» فعلينا أن نتقبّل كيف سيُنظَر إلينا يوماً بصفتنا من عتاة المجرمين في التاريخ. سيُقال: كانت هناك غيرنيكا، وأوشفيتز، وهيروشيما، وسريبرينيتشا، ورواندا. وكانت غزّة أيضاً». لا يتوقّف الحديث عن غزّة عند هذا الحدّ إذ تتزايد الأصوات الآتية من إسرائيل نفسها والداعية إلى التفكير في ما يجري الآن وفي المرحلة الآتية.

في مقابلة نشرتها أمس صحيفة «لوموند»، تحدّث عالم الاجتماع والأستاذ الجامعي ياجيل ليفي عن معنى الحرب على غزّة وعن غياب خطّة واضحة لفترة ما بعد الحرب، ولاحظ «أننا لا نسمع في إسرائيل خطاباً يشكّك في نهج العسكريين». وعن سؤال: «هل يفاجئك صمت الرأي العام الإسرائيلي الكبير حيال الدمار في غزة؟»، أجاب: «لا يوجد في وسائل الإعلام الإسرائيلية أيّ شيء تقريباً عن تأثير العمليات العسكريّة على السكان. إنه تجريد سكان غزة من إنسانيتهم، وهذا الأمر ليس بجديد». ويضيف: «تصل الخسائر بالأرواح إلى نحو 60 جندياً إسرائيلياً، بينما هناك 14 ألف شخص قُتلوا حتى الآن في غزة، بينهم ما لا يقلّ عن 6000 طفل. أنا شخصيّاً يؤلمني أن أرى ما نفعله في غزّة».

مقابل هذه الأصوات الآتية من داخل إسرائيل ومن خارجها، كم تبدو هزيلة المسيرة التي شهدتها باريس يوم الأحد الماضي، وسارت في مقدّمها الممثلة إيزابيل أدجاني وعدد من الكتّاب والفنانين والمثقفين الذين أرادوها مسيرة «محايدة، موحّدة وسلمية»، وأعربوا عن أملهم في أن «تنتهي الحرب بين الأشقّاء الفلسطينيين والإسرائيليين على الفور». المقابلات التي استمعنا إليها من بعض منظّمي هذه التظاهرة والمشاركين فيها تُذكّر بعظات بابا روما، أو، في أحسن الأحوال، بتمنّيات جمعيّة «الحبل بلا دنس». إنها دعوة إلى التآخي من دون أيّ تلميح إلى الكارثة الإنسانيّة وأسبابها الفعليّة، ولا إشارة واحدة أيضاً إلى ألوف الأطفال الذين لم يعرفوا من الحياة سوى الموت!

نحن الآن أمام هذه الحقيقة المرعبة: بالنسبة إلى القسم الأكبر من حكومات العالم «المتمدِّن»، وأبواقه الإعلاميّة وعبيده الطَّوعيّين، مُتَّهمٌ ومُدان كلُّ مَن يطالب بالعدالة ويقف ضدّ الظلم. هذا هو واقع العالم اليوم: مَن معه قوّة المال والسلاح والإعلام، ومن يستأثر بالثروات الطبيعية وبالتقدّم العلمي والتكنولوجي، يستبيح الأرض ومَن عليها. يطلق رصاصة «الرحمة» على ما تبقّى من قِيَم ومبادئ وأمل. ويهمّش أصحاب النزعة الإنسانيّة، ومن ضمنهم مَن ينتمي إلى مجالات العلم والفكر والفنّ والأدب، وكلّ من يحلم بعالم آخر جديد يتآخى فيه البشر ويكون صالحاً للعيش.


MISS 3