العنوان لا يعني الطير الأبابيل ولا حجارة السجيل ولا العدة ورباط الخيل، تلك آيات موجهة للمؤمنين في معارك التبشير الديني الذي فات أوانه؛ بل يعني انتهاك قوانين العلم بفكر غيبي مثلما ينتهك الحكام الدساتير بسياساتهم. هنا تحل الفوضى في المجتمعات وهناك في العقول.
تتوسل العقول الكسولة النصوص المقدسة لتحتمي بها ولتخفي جهلها بقوانين العلم، فتحيل تفسير الوقائع والأحداث إلى السنن الإلهية التي «سنّت» قوانين الكون. العقل المستنير قرأ هذه السنن وفهم منها أنه مدعو إلى اكتشاف تلك القوانين لا إلى الركون إلى ظاهر النصوص التي «لا يعلم تأويلها إلا الله».
منظمة «حماس»، كما «حزب الله» من قبلها، حرمت الجيش الإسرائيلي من مألوف انتصاراته على الجيوش العربية. الفكر الغيبي لا يفسر هذا الإنجاز العسكري بقانون السببية. أحد المعممين فسره لا بابتكار سلاح الكمائن المخفية تحت الأرض بل بالمهدي الذي يدير العمليات من غيبته الكبرى تحضيراً لعودته.
المتحمسون اللبنانيون رأوا أنّ العامل الأساس في التوصل إلى هدنة إنسانية في حرب غزة ليس التضحيات الكبرى التي بذلها الشعب الفلسطيني بمقدار ما هو نتيجة لمشاغلة «حزب الله» الجيش الإسرائيلي ضمن قواعد الاشتباك على جبهة لبنان. أشباه له رأوا أنّ الشجرة التي ارتوت بدماء أحد الشهداء في بنت جبيل أزهرت في السماء أسماء الأئمة. هل من المعقول أن تستعاد بعد قرون المساجلة بين النقل والعقل أو بين تهافت الفلسفة وتهافت التهافت؟
قد يكون «العاقل» بعلمه عاجزاً عن صنع بطولة كالتي يصنعها متحمس بتفكيره الغيبي. لكن، لا يضير القضية إذا ما حقق الشعب انتصاراً بالحماسة ولو مبنية على جهل. منحى توظيف النصر هو ما يضيرها. أفغانستان نموذج صارخ. شد التاريخ إلى الوراء، تكفير الحضارة والعلم والتقدم وإعادة البلاد إلى عصور التخلف. لا مدارس ولا شاشات، النساء سجينات داخل جدران البيوت، فيما، على الضفة الأخرى، البشرية كلها مشغولة باكتشاف المجاهل وسنن الكون، وبحماية نفسها من مخاطر الذكاء الاصطناعي.
يضيرها أيضاً أن يفضي نكوص الفكر إلى نكوص إضافي يستعاد به المنهج الأسطوري لتفسير وقائع الماضي ويستعان بالمنجمين لرسم معالم المستقبل. التقهقر من السببية إلى علم الغيب إلى منهج التفسير الأسطوري مسار تراجعي خطير في التفكير، فيما تتضاعف سرعة تقدم العقل البشري بصورة قياسية، ما يجعل النكوص ممراً حتمياً للخروج من التاريخ، بحسب تعبير المفكر المصري فوزي منصور.
الفكر الغيبي ليس الدين بل تفسير الدين. ليس النص المقدس بل فهم النص المقدس. ليس الإيمان، وهو حاجة لطمأنينة الإنسان النفسية، بل هو العقل المستقيل، بحسب تعبير الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري.
الفكر الغيبي يتفادى النقد، وفي غيابه تتراكم الهزائم وتتوالى. لم تتعلم الأمة من أخطائها، وما زال كل فريق فيها يخوّن الآخر. تخوين الأنظمة معزوفة تتكرر منذ النكبة الأولى حتى نكبة غزة. إدانة الدعم للدولة الصهيونية معزوفة ثانية. الثالثة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
من سؤال شكيب إرسلان، لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون، ما زالت الأمة تردد الإجابات ذاتها على السؤال عن أسباب التخلف. تعفي نفسها من المسؤولية وتحيلها على الغرب، مع أن تخلف الأمة بدأ منذ هولاكو وتيمورلنك وإحراق مكتبات بغداد، أي قبل أن يأتي الغرب إلينا بألف عام.
من المؤكد أنّ الغرب كما الشرق يسعى كل وراء مصالحه. أما أوطاننا فمنكوبة بالاستبداد، استبداد الأنظمة والأحزاب واستبداد العقول. استبداد المهزوم، فكيف إذا انتصر؟!