أمبرين زمان

مآسي الأكراد السوريين مع تواصل الهجوم التركي

8 حزيران 2020

المصدر: Al Monitor

02 : 00

منذ سبعة أشهر، عبرت القوات التركية وحلفاؤها في المعارضة السنّية إلى شمال شرق سوريا، فأضعفت توازناً هشاً كان قد جعل المنطقة الخاضعة للأكراد الأكثر أماناً واستقراراً في بلدٍ غارق في الحرب. اليوم، يجد عشرات آلاف المدنيين النازحين صعوبة في الصمود وسط ظروف المخيمات والمدارس التي يعتبرونها منازلهم الآن. يحاول البعض التعافي من إصابات تضعها الجماعات الحقوقية أحياناً بمصاف جرائم الحرب. في الوقت نفسه، تحتدم الحرب الدعائية بين الطرفَين. كان محمد حميد محمد من بين ضحايا الهجوم التركي ضد القوات الكردية السورية في 9 تشرين الأول. تعتبرهم أنقرة "إرهابيين" يحاولون تفكيك تركيا. لكن تنكر "وحدات حماية الشعب" المدعومة من الولايات المتحدة أنها تحمل أي نوايا عدائية تجاه أنقرة.

أصبح محمد البالغ من العمر 12 عاماً رمزاً لعدم محاسبة تركيا على أفعالها حين انتشرت صور بيانية لجسمه المغطى بحروق رمادية نازفة في الصحف العالمية. وفي ظل تصاعد أعداد الضحايا وظهور النوع نفسه من الحروق على أجسامهم، تنتشر ادعاءات متزايدة مفادها أن القوات التركية استخدمت الفوسفور الأبيض ضد المدنيين: إنه عنصر كيماوي يُستعمل في العمليات العسكرية لإنتاج الدخان أو إضاءة الأماكن. لكن اعتبر وزير الدفاع التركي خلوصي عكار تلك التقارير "أنباءً كاذبة" تُروّج لها وسائل الإعلام الأجنبية، وتنكر تركيا امتلاكها أي أسلحة كيماوية أصلاً.

يقول محمد إنه كان يلعب خارج منزله في بلدة رأس العين التي تحتلها تركيا راهناً، فسمع صوت انفجار فجأةً وشاهد حريقاً: "لم أشعر بشيء إلى أن استيقظتُ في المستشفى. كان والدي إلى جانبي. رحتُ أصرخ لأنني شعرتُ بالحروق في أنحاء جسمي. التقط الصحافيون صوراً كثيرة لي. كان الألم مريعاً".

مع انتشار خبر إصابته، قرر مسعود برزاني، زعيم بارز في إقليم كردستان العراق المجاور، أخذ المبادرة لمساعدته. بالتعاون مع الحكومة الفرنسية، نظّم برزاني سفر محمد ووالده حميد في طائرة إسعاف إلى فرنسا، ثم تلقى محمد العلاج طوال ثلاثة أشهر في مستشفى عسكري خارج باريس.

خضع محمد لسبع عمليات جراحية. هو يتذكر تلك الفترة قائلاً: "سئمتُ من ألم التمدد على السرير طوال الوقت. حاولتُ في إحدى المرات أن أسير قليلاً، لكنني وقعتُ أرضاً بعد بضع خطوات".



محمد طفل سوري أصيب بحروق شديدة خلال هجوم تركيا شمال شرق سوريا



الحياة صعبة جداً في المدرسة المتصدعة التي لجأ إليها محمد في مدينة الحسكة مع والدَيه وشقيقته وأشقائه الأربعة منذ عودته في 10 آذار. تتكل العائلة على الجمعيات الخيرية. خدمات المياه والكهرباء متقطعة هناك وترتفع درجة الحرارة ولا وجود لمكيّف هواء. إنها ظروف مألوفة في حياة اللاجئين. لكنّ التعرّض للحر قد يصبح مسألة حياة أو موت في حالة محمد، وترتفع الحرارة لأقصى حد في الحسكة خلال الصيف. كذلك، لا يُفترض أن يتعرض جلده المحروق لأشعة الشمس مباشرةً خلال السنوات الخمس المقبلة.

عبّر مسؤولون في المنطقة المستقلة الخاضعة لسلطة الأكراد في شمال شرق سوريا عن استيائهم من تركيز وسائل الإعلام على هذا الطفل تحديداً. تقول فوزة يوسف، مسؤولة كردية بارزة: "قصة محمد مأسوية طبعاً، لكن يعاني مئات آلاف المدنيين النازحين وعشرات آلاف الأولاد الآخرين بسبب الاحتلال التركي".

تطرّقت الأمم المتحدة أيضاً إلى إعدام السياسية الشابة هفرين خلف وسائقها في 12 تشرين الثاني على يد لواء "أحرار الشرقية" المدعوم من تركيا بالقرب من تل تمر ومقتل 11 مدنياً في اليوم نفسه حين كانوا متجهين إلى رأس العين. يذكر التقرير: "في الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر، تعرّض الموكب لضربة جوية استهدفت السيارة الأولى، في وسط رأس العين، بالقرب من المسجد الكبير. أنكرت السلطات التركية تورطها في تلك العملية أو أعلنت أنها لم تسجّل أي حوادث مماثلة. تتابع المفوضية التحقيق بهذه الحوادث وتدعو السلطات التركية إلى إطلاق تحقيقاتها الخاصة ونشر النتائج علناً". لكنّ تركيا لم تنشر أي نتائج بعد.

تشكك التحقيقات الفرنسية بتعرّض محمد للفوسفور الأبيض، لكن يقول الدكتور عبـــاس منصوران، خبير إيراني سويدي في علم الأوبئة، إن هذا العنصر استُعمِل حتماً مع مرضى عالجهم في أول أيام التوغل التركي في أحد مستشفيات الحسكة. دخل حوالى 30 ضحية، معظمهم من المدنيين، إلى مستشفى الحسكة الأساسي وكانوا مصابين "بحروق بالغة وغير مألوفة وإصابات مختلفة بسبب الدخان على الوجه والأذن ومناطق أخرى". يذكر منصوران في تقريره: "كانت هذه الخصائص مختلفة جداً عما نتوقعه من الإصابات الناجمة عن عناصر غير مرتبطة بالأسلحة الكيماوية الحارقة، مثل الفوسفور الأبيض. تعود خبرتي إلى النصف الأول من الحرب الإيرانية العراقية [خلال الثمانينات]، وقد عملتُ في تلك الفترة في قسم الحروق". استعمل الطرفان حينها أسلحة كيماوية خلال حرب دامت ثماني سنوات، بما في ذلك السارين وغاز الخردل.

تثبت حالة واحدة على الأقل في المختبر السويسري Wessling AG الادعاءات القائلة إن المدنيين تعرّضوا للفوسفور الأبيض. في تقرير بتاريخ 4 كانون الأول، أعلن المختبر أن "نوع الجروح (حروق كيماوية) في نسيج جلدي لأحد الضحايا وارتفاع كمية الفوسفور في العيّنة يثبتان استعمال كواشف الفوسفور".

عالج منصوران المريض الذي حلل مختبر Wessling عيّنة أنسجته. قال الطبيب إن ذلك المريض كان مدنياً من رأس العين. تعرّض هذا الرجل لضربة جوية بطائرة تركية بلا طيار حين كان في طريقه إلى بلدته على دراجته النارية في 17 تشرين الأول. لكنه كان قوياً جداً، فنجا من الموت.

يتردد حلفاء تركيا في الناتو دوماً في لوم أنقرة على انتهاكاتها لحقوق الإنسان ويكتفون بالضغط عليها لتقديم التنازلات في المسائل التي تفيدهم استراتيجياً.

خلال جلسة استماع عُقِدت في 23 تشرين الأول وسط دعوات إلى منع تركيا من توريد الأسلحة، تكلّم مبعوث وزارة الخارجية الأميركية إلى سوريا، جيم جيفري، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي عن وجود "تقرير واحد" عن استعمال الفوسفور الأبيض وأكد على متابعة التحقيق بالموضوع.

قال جيفري للنائب الأميركي الجمهوري عن ولاية نيو جيرسي، كريس سميث: "الفوسفور الأبيض عنصر شائك لأن استعمالاته العسكرية متعددة. يجب ألا نعرف ما حصل بكل بساطة، بل الهدف الحقيقـــــي من استعماله".

كتبـت "منظمة حظر الأســـلحة الكيماوية" لموقع "المونيتور" في رسالة إلكترونيـــــة: "عند استعمال الفوسفور الأبيض على شكل دخان أو إضاءة أو سلاح حارق، لا يدخل استعماله ضمن صلاحيات "اتفاقية الأسلحة الكيماوية" أو "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية". في حالات مماثلة، تنجم الآثار المقصودة عن خصائص الفوسفور الحرارية، لا خصائصه الكيماوية السامة".



محمد مع إبنة عمه "روزلين" البالغة من العمر 6 أشهر في معسكر مؤقت في الحسكة



لكن تذكر المنظمة أيضاً أن استعماله كسلاح حارق ضد المدنيين ممنوع بموجب اتفاقية الأمم المتحدة في العام 1980، كما أنها تنكر التقارير الإعلامية التي تفيد بأن المنظمة حققت باستعمال تركيا المزعوم لأسلحة كيماوية خلال "عملية نبع السلام" وتعتبرها أخباراً "غير صحيحة".

تعليقاً على الموضوع، يقول متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية لموقع "المونيتور": "اعترفت الحكومة التركية بالحالات التي أشرنا إليها وقدمت معلومات عنها ووجّهتنا في بعض الحالات إلى الحكومة السورية الموقّتة باعتبارها السلطة المسؤولة. نحن نعرف حتى الآن أن فرداً واحداً من لواء "أحرار الشرقية" يخضع للمحاكمة بتهمة قتل مدنيين غير مسلحين خلال "عملية نبع السلام"، لكننا لا نملك تفاصيل كافية عن مسار المحاكمة لأنها ليست علنية. لقد طالبنا تركيا بمتابعة جهودها لأداء واجباتها بموجب قانون الصراع المسلّح، وتقليص الأذى اللاحق بالمدنيين، ومحاسبة المسؤولين عن أي مخالفات أو انتهاكات، ونتوقع منها التزاماً صارماً بهذه المعايير. تتابع وزارة الخارجية الأميركية مناقشة مسألة انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة أو مخالفة القانون الإنساني الدولي مع مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة التركية، وهذا ما فعلناه في شهر آذار الماضي بعد صدور أحدث تقرير عن "لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا". لقد صرّحنا مجدداً بأننا نتوقع من تركيا التحقيق بالانتهاكات والمخالفات المزعومة ومحاسبة المرتكبين عند الاقتضاء".

في ما يخص استعمال الفوسفور الأبيض، أضاف المتحدث: "طرحت وزارة الخارجية الأميركية هذا الموضوع أمام سلطات تركية رفيعة المستوى. يقول المسؤولون إن أي استعمال للفوسفور الأبيض كان يهدف حتماً إلى إخفاء القوات الصديقة بالدخان. لا نملك أي معلومات مستقلة عن استخدام الفوسفور الأبيض كسلاح كيماوي من جانب القوات التركية".

بعد ثمانية أيام على بدء التوغل، تبرعت تركيا بمبلغ 33 ألف دولار تقريباً إلى "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية" التي تنتسب إليها لبناء مركز جديد للتكنولوجيا الكيماوية. أعلنت المنظمة في بيان صحافي: "يجب أن تلبّي المنشأة الجديدة متطلبات الدول الأعضاء على مستوى تحسين أدوات التحقيق وإمكانات الرصد وتدابير الاستجابة، فضلاً عن تكثيف نشاطات بناء القدرات".

بالعودة إلى الحسكة، سمع محمد وعائلته أنباءً سارة أخيراً. جمع متطوعون من المنطقة المال الكافي لنقل العائلة إلى منزل مزوّد بمكيف للهواء، ووافقت الحكومة المحلية الآن على تحمّل كلفة علاج محمد ونفقات سكنه مستقبلاً. صرّحت بريفان الخالدي، مسؤولة كردية بارزة، لموقع "المونيتور": "لقد طالبنا المؤسسات التابعة لنا بتأمين حاجات محمد، مع التشديد على مراقبة صحته وتأمين فرص عمل لأقاربه".

لكنّ أكثر ما يريده محمد هو العودة إلى رأس العين: "أحلم دوماً بالعودة إلى هناك ودخول المدرسة مجدداً. كنت الأفضل في صفّي. أريد أن أصبح جرّاحاً حين أكبر".

يدرك محمد أن تلك الأحلام لن تتحقق في أي وقت قريب على الأرجح. هو يعرف أن تركيا لن توقف اعتداءاتها ولا مفر من استمرار سقوط الضحايا.


MISS 3