شربل داغر

المسرح، وامتناعُه الإجتماعي

27 تشرين الثاني 2023

02 : 00

انصرفتُ، قبل شهور، الى إعداد مدونة عن بدايات المسرح في المجال العربي، قبل الاستعداد لكتابة كتاب عنها بالتالي. ومن المفاجآت الجميلة التي عرفتها، هو أن أحد الزملاء الجزائريين مكَّنني من الحصول على نسخة كتاب يشتمل على أول نص مسرحي عربي مطبوع : «نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرباق في العراق»، الذي يعود للكاتب الجزائري ابراهام دنينوس (1797-1872)، وقد قام بتحقيق النص وتقديمه : مخلوف بوكروح.

وكان النص قد صدر مطبوعاً وفق تقنية الطباعة الحجرية في العام 1847، وهي السنة عينها التي قَدَّم فيها مارون النقاش عمله المسرحي الأول : «البخيل» في بيروت. لم يشكك أحد من الدارسين في «أولوية» عمل النقاش، إلا أن على الدارس المدقق أن يضيف إليه المسرحية الجزائرية المطبوعة، والتي لم تُعرض وتمثل أبداً.

النقاش عرف المسرح إثر زيارة إلى مدن إيطالية، ولعل الجزائري عرفها في باريس حيث عمل، أو بالتفاعل مع فرنسيين.

هذا ما يَظهر في النسخة المتبقية من مسرحيته، وهي مهداة إلى أحد أعضاء «الجمعية الآسيوية» بباريس، فضلا عن أن الكاتب كان مترجماً في محكمة التجارة بباريس، حسب أحد الدارسين الجزائريين.

هذا ما يثير السؤال: كيف يحدث أن المسرح، تأليفاً وعرضاً، لم يعرفه العرب، سواء في الجاهلية أو في العهود الإسلامية، على الرغم من اتصالهم به، سواء في العهد الروماني، وخصوصا مع الفلسفة الإغريقية؟ الأكيد أن الحياة البدوية في ترحالها، من جهة، وفي بنائها القبَلي، من جهة ثانية، ما كانت تتيح الاستقرار، ولا التخالط، اللازمَين للعمل المسرحي. فلماذا لم تتبدل الأمور في حياة المجتمعات الإسلامية؟ هذا السؤال جدير بأكثر من مساءلة، ما دام الفقه لم يُنهِ عن التمثيل، غير المعروف أساسا. وهو ما يَظهر كذلك في حيرة المترجم العباسي، ثم ابن رشد، في إيجاد مقابل عربي للمسرح حسبما ورد في «شعرية» أرسطو، فكان أن قرباه من... المدح.

مع ذلك، لم تعدم هذه المجتمعات من احتفالات، في الأعياد، أو في مناسبات عسكرية، من دون أن تبلغ اللهو أو التأمل في تمثيل الحياة والبشر، أو «الملاعيب» كما قيل في بعض ما يشبهها.

وهو سؤال يبلغ، في عمقه التاريخي، سؤالا أصعب يتناول إمكان «اللعب» في الحياة، ووجوهها، ما لا يتوافر في صنوف الأدب المختلفة.

فاللهو الثقافي المقر اجتماعياً، والمرغوب فيه، والذي يقضي بالخروج من البيت إلى مكان للعرض، بقي غير معروف. فكان أن فضل الشعراء بلاط الخليفة، والأدباء والعلماء «مجالسَهم»، وبقي البيت منتدى جامعاً للغناء، أو لسماع سِيَر البطولة، أو قصص القصاصين.

ولهذا لم يفكر الكاتب الجزائري، على الأرجح، في عرض مسرحيته، واكتفى النقاش بعرضها في حديقة بيته...

ذلك أن قيام المسرح احتاج، على ما يبدو، الى عملية خروج إلى «علانية» المجتمع لم تكن متاحة، ولا مرغوبة، بالمعنى السياسي والاجتماعي، قبل الفقهي أو الديني.

وهو ما لا يزال يفسر، حتى اليوم، الحضور المتقطع للمسرح في المدينة العربية.


MISS 3