محمد عبيد

"حزب الله": "الترابيون"

29 تشرين الثاني 2023

02 : 00

منذ اليوم الأول لإنطلاقته، طرح «حزب الله» إشكالية متعددة الوجوه في الواقع اللبناني ومن ثم الإقليمي، وبوجه ما في الواقع الدولي أيضاً. فهذا الحزب الذي نشأ كحركة مقاومة في ظل حرب أهلية لبنانية، شقّ طريقه بالدم وحفر لنفسه موقعاً متقدماً وبعد ذلك أحادياً في الإمساك بورقة المقاومة ضد العدو الإسرائيلي.

لم تكن الأحادية مستغربة لدى المتابعين، إذ أنّ ما كان يجري في كواليس الإدارة السورية للملف اللبناني كان يشي بأنّ القوى السياسية اللبنانية المسلحة تمّ إحتسابها ضمن خانة «الميليشيات» وفقاً لتوصيف وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، وبالتالي كانت ملزمة بتسليم معظم أسلحتها والتوقف عن ممارسة أي عمل عسكري داخلي أو حدودي، في مقابل فتح أبواب مؤسسات الدولة وإداراتها المدنية والعسكرية أمام مسؤولي هذه القوى وعناصرها... ما عدا «حزب الله الذي تم استثناؤه بقرار سوري- إيراني مشترك لسببين أساسيين، الأول: أنّ الاحتلال الإسرائيلي كان ما زال يجثم على الأراضي اللبنانية الجنوبية، ومن غير الطبيعي البحث بجدوى سلاح المقاومة قبل تحريرها على الأقل. والثاني: عدم وضوح الرؤية في ما يتعلق بالنهايات المفترضة لمفاوضات السلام في مدريد، خصوصاً وأنّ البدايات شهدت محاولات عديدة لفصل مسارات الأطراف العربية عن بعضها، بهدف إستفراد كل منها على حدة لدفعه إلى تقديم تنازلات، وهو ما حصل لاحقاً على المسارين الفلسطيني والأردني.

لذا لم يَسرِ على «حزب الله» ما تم إلزام «الميليشيات» السياسية الأخرى به والتي تنعمت بالسلطة والنفوذ والمغانم، في حين مُنع «الحزب» من دخول جنة الوزارات والإستفادة من لعبتها «الزبائنية» لتعزيز حضوره الشعبي.

لم يكن سهلاً على «حزب الله» في منتصف الثمانينات ونهاياتها التكيّف سياسياً ومالياً مع واقع أنّ الثورة الإسلامية في إيران تعاني من حرب شرسة، كان يشنها عليها الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، نيابة عن باقي العرب ومعظم الغرب. إذ أنّ مستلزمات عمليات المقاومة الهجومية التي كان يقوم بها الحزب على أطراف ما كان يسمى «الشريط الحدودي» وفي داخله ضد مواقع العدو الإسرائيلي وعملائه، كانت تستوجب توفر إمكانيات مالية وعسكرية ولوجستية ضخمة. وعلى الرغم من ذلك تمكن «الحزب» من إيلام هذا العدو وعملائه، بحيث أنّه لم يمضِ وقت طويل حتى تمكنت المقاومة الإسلامية من طرد قوات الإحتلال الإسرائيلية من معظم الأراضي اللبنانية، في حين إنهارت قوات العميل أنطوان لحد وهربت إلى داخل الكيان الإسرائيلي.

من كان يراقب «حزب الله» آنذاك أو كان يعرفه من الداخل، لا بد أن يلتفت إلى التحولات الجذرية التي طرأت على أداء مقاومته الإسلامية خلال التسعينات، بعدما تولى أمانته العامة الشهيد السيد عباس الموسوي (رض) مكرساً نموذجاً «ترابياً» في القيادة، والزائر لمعلم «مليتا» السياحي الشهير يرى بأم العين الكثير من الشواهد حول مشاركة السيد عباس رجال المقاومة تفاصيل صمودهم وتحركاتهم ضد مواقع العدو في جبل صافي وتلال منطقة إقليم التفاح في جنوب لبنان.

هذا النهج الموسوي سار عليه الأمين العام الحالي للحزب السيد حسن نصرالله، وأضاف عليه الكثير من شخصيته «الكاريزماتية» التي نجحت في تجاوز الدوائر الحزبية المحدودة لينقل الحزب إلى مرتبة القبول الأوسع لدى معظم الجمهور الشيعي واللبناني عامة، هذا القبول الذي بلغ ذروته في الحضور الإيجابي في وجدان الشعوب العربية والإسلامية خلال حرب تموز 2006، وكذلك المراقبة الحذرة من قبل أوساط دوائر القرار السياسي في الغرب وفي كيان العدو الإسرائيلي خصوصاً. هذا بالإضافة إلى تكريس دور إقليمي متقدم على المستويين السياسي والعسكري من خلال مواجهة مشاريع واشنطن وأدواتها في سوريا والعراق خصوصاً.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ حضور «الحزب» المفصلي وأدواره المتقدمة في المنطقة أدت إلى تكالب الكثير من الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية على تهشيم صورته لدى الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي، وآخرها المحاولات التي رافقت موقفه من العدوان على قطاع غزة عبر إتهامه بترك حلفائه في المقاومة الفلسطينية وحيدين لمصيرهم في مواجهة هذا العدوان، وهو إتهام تمّت فبركته في غرف الدعاية السياسية والإعلامية السوداء بهدف زرع الشك لدى جمهور المقاومة في لبنان وفي العالمين العربي والإسلامي للوصول إلى معادلة وحيدة، وهي: ما جدوى بقاء سلاح الحزب طالما لم يستعمله في هذه الحرب؟ والأهم أنّ المروجين له توزعوا بين سُذَج أخذتهم الحماسة المفرطة فذهبوا إلى التشكيك بخيارات المقاومة ومواقف سيدها التي كان يُطلقها في خطاباته، وبين خبثاء كان يُظهِرون التعاطف العميق مع معاناة الفلسطينيين ليخلصوا إلى أنه لم ينصرهم أحد وخصوصاً «حزب الله» في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية!

وفي الحالتين كان وما زال الهدف التوطئة لما بعد غزة لجهة مقاربة موضوع سلاح المقاومة ودوره وحدود إستعماله وصولاً إلى مرجعية قرار الحرب والسلم في لبنان من جهة، ومن جهة أخرى إسقاط البعد الإستراتيجي لهذا السلاح في ما يتعلق بدوره وبالحاجة إليه بإنتظار نضوج الظروف المؤاتية لمعركة تحرير فلسطين، كل فلسطين. وبالتالي فإنّ الإستعداد لمواجهة هذه الطروحات صار أمراً ضرورياً كيفما كانت التوازنات الإقليمية والدولية التي ستفرضها نتائج «حرب غزة». وهذا ما يفرض الحاجة إلى إجراء مراجعة شاملة لكيفية إدارة الصراع في الداخل اللبناني مع ما يستتبع ذلك من تعديل في الخطاب السياسي والإعلامي تجاه المستجدات في الداخل الفلسطيني بعدما بلغت المقاومة هناك سن النضوج المكتمل إلى درجة بات يمكنها معها قيادة المحور على تلك الجبهة المتقدمة.

التراث الإسلامي الشيعي يبرز تعبير «ترابي» لتوصيف شخص متواضع، زاهد، ملتصق بالناس، مترفع عن الصراعات الجانبية والحساسيات الشخصية، همه الأوحد تحقيق الأهداف السامية... إلى ما هنالك من المواصفات الأخرى القائمة على الإيثار والتضحية وسعة الصدر.

وفي الواقع إنّ تعبير «ترابي» هو إختصار لتسمية «أبو تراب»، وهو اللقب الذي كان يُكنى به الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ولأنّه المثال الأعلى للكثير من المسلمين والأحرار، بات السعي لنيل هذا اللقب من خلال محاولة التشبه بسلوك الإمام علي (ع) أقصى طموح كل من سلك طريق المواجهة ضد أي عدو محتل أو حاكم ظالم.

بعد 17 عاماً من توقف العمليات العسكرية بين المقاومة وبين العدو الإسرائيلي على جبهة الجنوب، مع ما رافق هذه السنوات من إنشغالات بالهموم السياسية والإجتماعية ومن تحديات فرضتها مواجهة الحراك الأميركي على الجبهة الداخلية اللبنانية، يبدو «حزب الله» اليوم أمام فرصة نوعية لتجديد «ترابيته»، فشهادة المجاهد عباس محمد رعد برمزيتها وبتوقيتها أعادت تصحيح الصورة المُتخَيلة عن الحزب وخصوصاً قياداته أو تلك التي تتقصد بعض دوائر الإعلام والدعاية السياسية تقديمها عنه. ولا شك أنّ التعبير الأبلغ الذي وصف به رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية محمد رعد «قصد فوصل» بما يحمله من معانٍ «عرفانية» أو بمعنىً آخر «صوفية»، إختصر هذا التعبير البعد العقائدي الروحاني في معنى إلتزام «حزب الله» كحالة مقاومة بمنظومة القيم والمبادئ التي كانت في أساس تكوينه.

(*) سياسي لبناني


MISS 3