مريم مجدولين لحام

مدن تحت الحجْر الصحي

كتاب فني يستجيب لروح الزمن الـ "كوروني"

11 حزيران 2020

02 : 00

لعلّ من حسنات الكورونا القليلة أن تنبثق من رحمها مجموعة كتب فنية تحاكي الواقع وتوثق الحياة خلال الجائحة بعنوان "مدن تحت الحجر الصحي: مشروع صندوق البريد"، إتّحد فيها أكثر من 50 فناناً عربياً فرّقتهم الحدود والعزلة. ففي مبادرة متميزة وفريدة من نوعها أطلقها أحد مؤسسي شركة دنقلا لنشر الكتب الفنية الفنان اللبناني عبد القادري، أُرسلت دفاتر فنية فارغة حيكت يدوياً إلى الفنانين تحمل إسمهم كي يشاركوا في ملئها بإبداعاتهم، وتمّ جمعها لتكون أقرب إلى موسوعة خلّاقة.

قد يكون عالم الفن محجوراً اليوم، لكنه بالتأكيد لم يتوقف عن الإبداع وعن التأريخ الجمالي. لذا جاء المشروع ليترجم "مشاعر القلق الصعبة وعدم الراحة" التي واجهت البشرية عموماً، في زمن الحجر الصحي والتباعد الجسدي عن بعضنا البعض إلى "إبداع محسوس"، فكيف بدأت المبادرة؟

يقول الفنان عبد القادري، وهو فنان معروف بلوحاته الواسعة النطاق التي تغطي القضايا الاجتماعية في لبنان وجميع أنحاء الشرق الأوسط لـ"نداء الوطن" أنه عندما بدأ العمل على كتابه الفني الخاص في أحد أيام الحجر في لبنان، شعر "بحميمية العمل وأهمية الكتاب الفني في عملية التعبير التي تظهر في تفاصيل الرسم التوضيحي، واختيار المواد وعملية الإنشاء والتخطيط والتصميم". كما أحسَّ "بجمالية "السَّهل المُمتنع" التي تجعل من العمل النهائي كائناً فنياً. فبالرغم من صغر الصفحة أو حجمها المتوسط نوعاً ما، أدرك أنها تأسر الفنان وتجعله يفكر فيها بشكل عميق وشخصي وحساس، وتستغرق منه وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيراً، لذا ارتأى مشاركة تجربته مع الأصدقاء في مبادرة تكسر قيود "الكورونا" وتكون شاهداً تاريخياً على زمننا الحالي، حيث تستمر دنقلا في إيمانها بقوة كتب الفنانين لتسخير التغيير ولترسخ في أذهان القراء كشكل فريد من أشكال التعبير التي تلتقط وتستجيب لروح العصر".



الفنان عبد القادري



وأشار القادري إلى أن المبادرة تهدف أيضاً إلى وضع الفن "خارج جدران الرواق". وقد ألهمه بشكل خاص الفنان الأميركي جون بالديساري الذي توفي في يناير/كانون الثاني من هذا العام حيث قال في أحد كتبه أنه "من الصعب وضع لوحة في صندوق البريد". وعليه شعر القادري بمدى أهمية أن يكون لكل فنان تجمعه به صداقة "عمل فني يدوي يمكن التمتع به بعيداً من صالات العرض، وإنطلاقاً من ذلك أبصر الكتاب النور".

"في أول أيام الحجر، بدأت أتساءل عما يمكن أن تقدمه لنا مساحاتنا الجماعية وكيف يمكننا أن نبقى منفصلين معاً. كمؤمن بقوة الاتصال الفني وجدت أن فكرة الكتاب ستشجع زملائي على التعبير في زمن العزلة الإجبارية، إذ إنه لطالما كان الفن يستجيب دائماً للعالم من حولنا بطريقته الخاصة والإستثنائية. ومن خلال الفن، نلتقط جميعاً القضايا الشخصية والاجتماعية والسياسية والبيئية التي نكافح من أجل فهمها. واليوم، فيما تشارف المجموعة على الإنتهاء، صرت أؤمن بكتاب الفنان اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغم أننا أسسنا شركة دنقلا حصرياً لدعم كتب الفنان وإصدارها. وآمل أن يتوج المشروع في المستقبل بتجميع الأعمال المنجزة من كتب الفنانين ليتم نشرها بعد ذلك ككتاب محدود الإصدار من دنقلا".



الفنان شوقي يوسف



أما قوة المشروع الذي جمع اعمال الفنانين "بالبريد" يكمن في تنوع الفنانين المشاركين، الذين يعملون في بلدان مختلفة في جميع أنحاء العالم وفي وسائط فنية مختلفة عن بعضها البعض، كما أن أساليبهم وطرق تعبيرهم مختلفة، إذ وصل لكل فنان منهم كتيّب صغير، خيطت أوراقه بطريقة يدوية باستعمال إبرة نصف دائرية وخيوط ملوّنة وكُتب اسمهم على الغلاف، وطُلب منهم التعبير عن أيام العزل التي تمر بها البشرية، من دون أن تُرسم لهم أي أطر أو حدود معينة، بل تُرك لهم الأفق لإنشاء كتابهم الفني الصغير الخاص بحجر "كورونا".

المشاركون

شارك في المبادرة بعض من أبرز الفنانين الناشئين في الشرق الأوسط. وكان من بينهم الفنانون المقيمون في بيروت سيروان باران، رضا عابديني، عبد القادري، داليا بعاصيري، جيلبرت حاج، هبة كلش، مجيد عبد الحميد، شوقي يوسف ومنى سعودي.



الفنانة داليا بعاصيري



وعن تجربتها في المشروع تقول الفنانة الجزائرية زليخة بو عبدلله لـ"نداء الوطن": "عندما وصلتني الدعوة من طرف الفنان عبد القادري، قبلت المشاركة بلا تردد، إذ إنني وجدت الفكرة فريدة من نوعها ولا نظير لها، خاصةً لانها تتسرب بذكاءٍ في سياق الحجر الصحي العالمي. كما أحببت ايضاً مقاربة طرح الكتاب كفضاء تعبيري يستعمله اي مفكر ومبدع، ويتحول منه الى مساحة ينطلق فيها إلى الصفحات كجزء من الفضاء الشخصي للفنان المحجور. وبفضل هذه المبادرة، استطعنا كفنانين محجورين في مكاننا المادي تحويل القيد إلى إيماءة إبداعية". وأكملت: "لم أستخدم الكتاب مطلقاً كمساحة إبداعية من قبل، وبالنسبة لي شخصياً كانت المرة الأولى التي خضت فيها هذا النوع من التجربة التي أسعدتني. أما العمل على كتابي في المجموعة فكان تحدياً، إذ إن مساحة الكتاب في ذاته لها مقاربة مختلفة للفضاء بسبب طبيعتها المرتبطة بشكلها، مادتها وعدد صفحاتها المحدود ولذلك بالنسبة لهذا المشروع، كان علي أن أفكر بشكل مختلف عن العادة، مع مراعاة الوحدة المكانية للكتاب وبأنه سيكون كائناً يمر عبر أيدي الناس، على عكس العمل الفني الذي من المفترض ألا يُلمس".



الفنانة داليا بعاصيري خلال رسمها



ورأى الفنان الفلسطيني المقيم في فرنسا محمد جحا أنه وزملاءه الفنانين "يواصلون تحدي فكرة ومحتوى وهيكل الكتاب التقليدي في العالم". ووجد أن "فكرة جمع الفنانين في مبادرة واحدة فكرة عظيمة، فما أن يشارك فيها كل واحد منا بطريقته التعبيرية الخاصة ليوثق ويؤرخ فنياً زاوية معينة في زمن "الكورونا"، وبحسب آلية التنفيذ الخاصة به، حتى تجول لوحاتنا بين أيادي الناس. ومن جهتي، ما ان وصلني كتابي الخاص من القادري، عبرت فيه عن تجربة التباعد الاجتماعي بين الناس وفصل الحدود، وأكملت عبره تجربتي السابقة في تقنية "الكولّاج"، ربطت عبر توليفة بازيلية تشكيلية بخطوط التباعد التي ترسم على الأرض في السوبرماركات، وتحدد المسافة المرعية الإجراء بين المواطنين في زمن الوباء، ورسمت الخطوط كي أخلق الفكرة المطروحة للواقع الجديد والظروف الجديدة التي صرنا نعيشها حالياً، اقتربت فيها من القراء الذين سيقتنون الكتاب. وستمر لوحاتنا بين أيديهم ويحتفظون بها في مكتباتهم".

مــــــــــن الــــــــــرمــــــــــاد


كان للبنان حصة من هذا المشروع مع الفنانة داليا بعاصيري، المعروفة بضخامة أعمالها الفنية من حيث الحجم والتعبير، ووصفت تجربتها بـ"أنها كانت تجربة غريبة عن أعمالها السابقة وأنها لم تلمس الكتاب الذي أُرسل إليها كي تملأه لمدة شهر ونصف، قائلة: "كان الكتاب هذه المرة هو صالة العرض، فشعرت أنه عزيز علي جداً حتى قبل أن أخط قلمي عليه. فعادة كان يطلب مني التأقلم مع المساحات الواسعة ويطلب مني ملء جدران هنغارات واسعة، أما هذه المرة فكانت المساحة المطروحة بين يدي تتمثل بكتاب صغير، وكان علي التأقلم مع مساحته. بعدها، رسمت فيه وجع لبنان في سواعد المواطنين المنهكين، رسمت الرماد والإحتراق في يومياتهم، الرماد المتعدد الأوجه الذي يتراكم ويندثر بشكل مستمر، كما عبرت عن قرب تجلي الأمور كالصابون في مجلى الغسيل، وعن الأمل الذي ينتظرنا جميعاً إذ لا حدود ستقف أمامنا". وأكملت بعاصيري: "حاولت أن أعبر مسبقاً أن لا شيء دائم، وأن الأشياء التي نظن أنها متينة كبيوتنا مثلاً، يمكنها أن تكون هشة وفجأة نستيقظ لنرى أننا بلا سقف. واليوم في الكتاب الصغير حاولت أن أعكس كل تجاربي الفنية الكبيرة الأحجام في أوراق معدودة تصل إلى الناس وتلامسهم".



عند وصول الكتاب إلى الفنان مجد عبدالحميد



من جهته يشارك الفنان اللبناني شوقي يوسف في الكتاب الذي يصفه بـ"النقاش الصغير" والذي جمعه بالقادري وكانت الفكرة جميلة جداً، بخاصة مع الشكل اليدوي الذي أعطي لها وجعلها فريدة من نوعها ومميزة. وأكمل: "شخصياً، ان كتاب الفنان جزء من عملي، لكن هذه المرة كانت الفكرة ضمن هدف واضح ونطاق تعبيري جليّ يتعلق بلحظة جديدة علينا. فبعد أن كان العالم يتجه إلى العجلة والوتيرة "أسرع أسرع أسرع"، فجأة "فرمل" الكوكب وتجمد كل شيء".


MISS 3