جوزيف باسيل

حسن الرفاعي حارسُ الجمهورية.. سَبَغَ الدستور وأوفى تاريخيّته

9 كانون الأول 2023

02 : 07

قاطع الرفاعي اجتماعات الطائف في تشرين الأول عام 1989 بعدما قرأ «وثيقة الوفاق الوطني» التي عُرضت على المجتمعين، فلاحظ ورود أفكار ومفاهيم اعتبرها صادمة ومنافية لما تعلّم وقرأ ومارس في مجال العلم الدستوري، لذلك امتنع عن حضور الاجتماعات، ثم تمنّع عن التصويت في جلسة إقرارها، ولاحقاً أدلى بتصريحات طالب فيها بتكليف أهل الاختصاص الإشراف على صوغ مواد الدستور وقوننته بالشكل الصحيح، متخوّفاً من أنّ الطائف «نقل الحكم من صراع الرأسين إلى صراع اللاحكم في حرب الرؤوس المتعددة في ظل غموض في الصلاحيات وتشابك في ما بينها»، داعياً إلى إعادة النظر فيه قبل إقراره دستوراً «لئلا نورّث الأجيال المقبلة أسوأ الأنظمة وأسوأ مَثَلٍ للممارسات»، مستشرفاً «أنّ ممارسات الحكم التي تشوّه الديموقراطية ستورّث أسوأ الفتن وربما يؤول بنا الأمر بعد هذه الفتن إلى ضياع الوطن». أليس هذا ما حصل خلال ثلاثة وثلاثين عاماً من إقرار الطائف؟



منذ إقرار اتفاق الطائف أخذ النظام السوري يتلاعب بتطبيقه، وفرَض تفسيره بالقوة، بما يخدم مصلحته في استمرار سيطرته على لبنان، بضوء أخضر أميركي، وبغض طَرْفٍ عربي، خصوصاً أن العرب تخلّوا عن مواكبة تطبيق الطائف وأخلوا الساحة للسوريين الذين طبّقوه على هواهم. وبعد خمسة عشر عاماً خرج السوري فتسلّم «حزب الله» إدارة لبنان بما يخدم مصالحه ومصالح إيران، وهكذا لم يطبَّق الطائف كما يجب، وها هو لبنان يتوجه إلى مزيد من التفكك والانحلال، في ظل تغييب متعمَّد لرئاسة الجمهورية، يساهم فيه «تقاتل» الموارنة على المناصب، وعدم إدراكهم الأخطار التي تحيق بوطنهم وموقعهم ووجودهم. وعليه فإنّ غروب شمس الموارنة عن أرض لبنان يفقده دوره ورسالته وميزته، ويؤدي بالكيان إلى الانهيار.

استنكف الرفاعي عن الشعبوية في تفسير الدستور أو تطبيقه فهو منذ كان وزيراً للتصميم عام 1973 ، رفض «تكبير الحجر» في مسألة المشاركة الإسلامية في الحكم وأعادها إلى نصابها الحقيقي في مجمع بيت الدين الذي انعقد برئاسة الرئيس سليمان فرنجية، متمسكاً بمندرجات الدستور في الحكم، كما درجت عليه، بالمواءمة بين النصوص والأعراف. وجاهر بتمسكه بالنظام البرلماني الديموقراطي الذي يحفظ للطوائف تمثيلها في الحكم.

ما زال رئيس الجمهورية رأس السلطة الإجرائية


رغب في أن تبقى رئاسة الجمهورية للموارنة، لأنّ لبنان وجد من أجلهم، ويجب ألّا يفرّطوا بها، وليحافظوا عليه، لئلا يجنح به المسلمون إلى سوريا أو مصر أو إيران، وهو الواقع حالياً، فقد وقع لبنان في براثن طهران، بعدما غُيّب الدور الماروني عن الحكم، وخلت سدّة رئاسة الجمهورية. وذهب الرفاعي أبعد من ذلك، إذ تصور مصير مسيحيي الشرق مرتبطاً بقوة الموارنة في لبنان، إذا تصفحنا السنوات العشرين الماضية، وما حلّ بموارنة لبنان ومسيحيي الشرق لأدركنا عمق نظرته وفِقْه كلامه.

أيّد الرفاعي بعض ما أقرّه الدستور من وثيقة الوفاق الوطني، كالمناصفة في عدد النواب، معترضاً على عدد 128 نائباً بدلاً من 108، كما أيّد إدخال الأعراف التي اتُّبعت في ممارسة السلطة، ما يجعل الحكم متوازناً ومستقيماً، ولفت إلى اعتماد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة، بدلاً من أن تبقى رهناً بمزاجية رئيس الجمهورية واستنسابيته، علماً أنه كان أول من طالب بها منذ عام 1972.

ومقابل ما أيّده عارض، وبشدّة: انعقاد جلسات مجلس الوزراء في غياب رئيس الجمهورية، لأنه ما زال رئيساً للسلطة الإجرائية، ولأنّ دوره أساسي في إدارة جلسات مجلس الوزراء وتوجيهها، فضلاً عن تحقيق التوازن في الحكم بصفته رئيساً للدولة.

ولم يستسغ نصاب الثلثين لانعقاد جلسات مجلس الوزراء، ولا أكثرية الثلثين لاتخاذ بعض القرارات (14 موضوعاً) كما لم يستسغ تقييد الحكومة في إمكان حلّ مجلس النواب، إلا بحالات محدّدة وشبه مستحيلة، وهذا ما يخلّ بتوازن السلطات.

ورفض ربط إقالة الوزير بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء، وولاية رئيس مجلس النواب لمدّة أربع سنوات، كذلك تعطيل رئيس مجلس النواب المادة 58 من الدستور التي تسمح للحكومة بإعطاء صفة العجلة لبعض مشاريع القوانين التي ترسلها إلى المجلس بتبدية مواد من النظام الداخلي للمجلس على المادة 58 الدستورية.

واعترض على تفسير الفقرة 3 الجديدة من المادة 69 من الدستورعلى أنها تجيز التشريع في غياب الحكومة. ورفض التفسيرات الغريبة التي تعطى للفقرة «ي» من مقدمة الدستور حول الميثاقية، التي تؤدي إلى تشويه النظام الديموقراطي البرلماني، حتى سمّيت «ميثاقية بري»، يطرحها حين تعوزه الحيل.





واجب مجلس النواب الإلتئام لانتخاب الرئيس

ما أكثر المسائل التي أثارها سوء تطبيق الدستور، وأبرزها الخلو في سدّة رئاسة الجمهورية، (المادة 49 من الدستور، ولاسيما الفقرة الثانية) وهو خلو مقصود، وليس لأسباب طارئة كالوفاة أو المرض، أو غيرهما، ويتساءل الرفاعي لماذا أهل الطائف «لم يُدخلوا أي تعديل فعلي عليها، بالرغم من الخلاف على تحديد نصاب انتخاب رئيس الجمهورية بين النواب والفقهاء قبل الطائف؟»، علماً أنّ انتخاب الرئيس منذ 1943 حتى 1988 كان في موعده ويلتئم المجلس بجميع أعضائه، دون «فذلكة»، غير مبررة، لتعطيل النصاب. ويقول الرفاعي: «على النائب واجب حضور جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وإلا ثمة عقوبات تطبَّق في حقّه نصَّ عليها النظام الداخلي للمجلس، ومنها حسم راتبه أو اعتباره مستقيلاً». حتى إنه أحال إلى «إمكان تطبيق المادتين 301 و304 من قانون العقوبات في حق النائب المتغيّب، إذا اعتُبر التغيب المتعمَّد للنائب بمنزلة الاعتداء الذي يؤدي إلى تغيير دستور الدولة».

وأوضح أنّ الدورة الأولى تفترض ضمناً حضور ثلثي النواب دورة الاقتراع الأولى لمباشرة عملية الاقتراع، و»أنّ نصاب الدورة الثانية، أو أي دورة أخرى تليها، يصبح نصف عدد النواب زائداً واحداً دائماً. وهذا ما شرحه الأستاذ الفرنسي جان بيار كوليار في دراسة أعدّها سنة 2007».

ويقول الرفاعي إنّ عبارة «يجتمع حُكماً في اليوم العاشر» (المادة 73) «تعني وتؤكد أن الانتخاب يجب أن يتم في يوم واحد وجلسة واحدة غير قابلة للتأجيل، اللهم إلا لظرف طارىء أو قوة قاهرة، وفي كل حال ليس من ضمنها التغيّب المتعمَّد عنها!».

ويضيف « إنّ المشترع التزم في نص المادة 49 مبدأً ملزماً أقرته مواد دستورية. فلم يفرض نصاباً معيناً لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، إذ إنّ الدستور أوجب على جميع أعضاء المجلس النيابي حضور الجلسة المذكورة. وهذا الوجوب ناتج من أنّ نظامنا هو نظام جمهوري ديموقراطي برلماني، ورئيس الجمهورية فيه هو رأس الدولة وحامي الدستور وحافظ سيادة الوطن... ويكفي القول إنّ الحيلولة المتعمَّدة دون انتخاب رئيس الجمهورية هي بمثابة تعطيل للنظام وانقلاب عليه».

ويذهب الرفاعي بذريعة «الظروف الاستثنائية» التي يرفعها الجميع شعاراً يتلطى خلفه لمخالفة الدستور، وليس هذا قصد الرفاعي، إنما لمواجهة تعطيل الدولة بالامتناع عمداً عن انتخاب رئيس الجمهورية، ولمواجهة إقفال مجلس النواب، كما جرى عام 2007، أو مواجهة اجتهادات رئيس المجلس حالياً، بفتح الجلسة وإقفالها على دورة واحدة كل مرة، وتعمُّد كتلته النيابية تعطيل النصاب في كل مرة... إلى أن يقترح أن يجتمع النواب برئاسة نائب رئيس مجلس النواب، «في أي مكان في بيروت ويكون الانتخاب صحيحاً ومشروعاً».



الأبناء والأحفاد يجتمعون حول الرفاعي في عيده التاسع والتسعين



المستشار القانوني لا يُستشار

يلفت الرفاعي في كتابه إلى أنه التقى في الطائف المستشار القانوني لمجلس النواب بشارة منسى الذي، بصفته، كان يُفترض أن يكون في صلب المناقشات لـ «وثيقة الوفاق الوطني»، لكنه لم يكن، وهذا يثير الاستغراب!

ويروي منسى في كتابه «قاموس الدستور اللبناني» أن الحكومة صاحبة الصلاحية في صياغة التعديلات الدستورية أرسلت مشروع قانون دستوري بالتعديلات المنبثقة من وثيقة الطائف إلى مجلس النواب، ولم تضمّنه مقدمة الدستور، ونظراً لطلب بعض النواب إضافة المقدمة، وتماشياً مع نص الفقرة الثانية من المادة 78 من الدستور التي تحصر صلاحية صياغة التعديلات بالحكومة وليس بمجلس النواب، اضطرت الحكومة إلى الاجتماع على عجل مساء نهار أحد (وهي سابقة لا أعتقد أنّ لها مثيلًا) نهاية شهر آب كي تعدّل مشروعها وتضمّنه نص المقدمة! وكان لافتاً إهمال هذه المقدمة أو سقوطها من مشروع الحكومة الذي أعده وزير العدل إدمون رزق أحد النواب البارزين والمشارك في اجتماعات الطائف، في حين اعتبر بعض أهل الطائف أنّ هذه المقدمة هي الميثاق الوطني الجديد للبنان!

هذه المقدمة التي تضمنت الفقرة «ي» منها مفهوم «الميثاقية» التي يختلف الحاكمون على تفسيرها، كما كانوا يختلفون على «الميثاق الوطني»، منذ 1943، ويتخذها البعض الآخر شماعة يعلّق عليها مخالفاته الدستورية. وللرفاعي رأي في «الميثاقية» و»الميثاق» لا يتسع المجال لذكره. أكثر من 600 صفحة في الدستور شرحه وفسّره ووصله بتاريخه وبسّط مندرجاته كي يكون فهمه في متناول كل قارىء.


MISS 3