جيمي الزاخم

مقابرُ الطائرات...هنا ترقدُ الذكرياتُ والأحلام

9 كانون الأول 2023

02 : 04

لكلّ عدوان أسلحةٌ تقتحم الميدانَ وتطبَعُه. صيت بعضها يسبقُها بالأهميّة والفاعليّة. وعلى المقلب نفسِه، ارتكنت كلُّ حرب إلى أدوات قتال تُدَشَّنُ في الهجوم أو الدفاع. على مدار عشرات الحروب التي وُظِّفت كمختبراتٍ تكنولوجيّة، تربّعت الطائراتُ على عرش الأهداف والقوّة. لن نفصّلَ أنواعَها وتصاميمَها. إنّنا نبحثُ عن سؤال واحد: ما هو مصير كلّ هذه الطائرات العسكرية بعد تقاعدِها؟ الجوابُ يتوسّع ليشمَلَ أيضاً الطائراتِ المدنية التي حملت ملايين البشر والقِصص التي تُشيّعها في شيخوختها. أين تقفل بابَ عمرها وذكرياتها؟ كيف يُعاد تدوير أحلامها وطاقاتها؟

في كانون الأول 1903، استقبلت أجواءُ ولاية نورث كارولينا الأميركية أوّلَ طائرة بمحرِّك اخترعها الأخوان رايت. مذّاك، بدأت تتألّف أساطيلُ جويّة دخلت الحربَ العالمية الأولى مع طائرات حربية. وإزاء التقدّم المستمرّ للتكنولوجيا، أصبح معدّلُ طيران الطائرة يتراوح بين 20 و30 سنة. يُقاس عمرُها بعدد دورات الضغط.



يتحوّل الركام الى لوحات ومشاهد فنية



أقدم وأكبر مقبرة طائرات

بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت الولايات المتحدة الأميركيّة بأسطول جويّ من 65 ألف طائرة حربيّة. ولاستيعاب هذا العدد، خُصّصت عام 1946 منطقةَ تخزين في قاعدة القوات الجوية الأميركية في ولاية أريزونا. اليوم، إنّها «أكبر مقبرة طائرات» حسب تقرير أوردتْه الصحيفة البريطانية The Telegraph. على مساحة تتجاوز 10 كيلومترات مربَّعة، تستقبل أكثر من 3000 طائرة سنوياً، بين مدنيّة وعسكرية وتجارية. وتخبّئ مركباتٍ فضائية تابعةً لـ»ناسا». قد تدخل الطائرة هذه المقبرة للمرة الأخيرة، فتموت سريريّاً. بعضها استوطن المكان منذ 50 عاماً. قسمٌ آخر يدخلها للاستراحة بين تحليقَيْن، أو بغاية التجديد أو التفكيك بجهود مئات الموظّفين. في جولة مصوَّرة لموقع Business Insider، قائدة الصيانة والتجديد الكولونيل جنيفر بارنارد تقدّر قيمةَ الطائرات الموجودة «بين 32 و 35 بليون دولار». اختيار أريزونا أتى نتيجة موقعها الجغرافي الذي يتميّز بالطقس الجافّ. هذا يُساعد على حماية الطائرات من غَدرات مرور الوقت مع حرارة تتجاوز الأربعين درجة. فيُطلى سطحُ المركبات باللون الأبيض ليُخفِّف الحرارة. كما أنّ طبيعةَ الأرض الجِيولوجيّة صلبةٌ. فوفّرت عليهم تكلفة تجهيز أرضية اسمنتية وممرّات وأرصفة. ومنعت غوصَ العجلات في التربة ولو حملتْها دهراً على ظهرها.

مقابر حول العالم

إنّ المساحات الشاسعةَ الخالية مع الجوّ الجافّ في جنوبيّ غربيّ الولايات المتّحدة خوّلت هذه المنطقة احتواء أغلب مستودعات التخزين في العالم. هذه الساحات تُشاهَدُ كلوحات فنّية: المصوّر الأميركي تْرويْ بايفا التقط 150 صورة ليلية لهذه لأماكن وجمهعا في كتاب تسيَّدَتْه روح هذه الأمكنة التي تُصوَّر فيها الكثير من الأفلام.

أمّا خارج القارة الأميركية، فيقبع أكبرُ موقف أوروبيّ للطائرات في السهول الجافة لبلدة توريل الإسبانية. تتوهّج فيها أشعةُ الشمس على مدار 250 يوماً. فتحمي عشرات الطائرات من الصدأ. ولأنّ الطقس رطبٌ في جنوبيّ القارة الآسيوية وبلاد المحيط الهادئ، لجأت شركات الطيران إلى مقبرة الطائرات في مقاطعة أليس سبرينغ الأسترالية التي أُنشئت عام 2013. بالمقابل، تتوزّع مقابرُ معدودةٌ على بقاع العالم الأخرى. مثلاً، في مطار مهجور قرب خاركيف الأوكرانية، هياكل عشرات الطائرات المرميّة للإهمال والنسيان، على عكس بانكوك التايلندية التي تحوّلت مقبرةُ طائراتها المتروكة إلى ملجأ للعائلات المُشرَّدة. مجلة The Sun الأميركية اعتبرتْها «مصدراً للانبهار». ويدفع السُيّاح رسماً لدخولها. يؤلّف الزوّار من بقايا الطائرات تتمةَ حكايات رحلات على متن طائرات مملوكة من رجال أعمال تايلانديّين. وحظيت المقبرة باهتمام مخرجين وموثّقين. مثلاً، تطرّق الوثائقي الكنديّ Scrap (الخردة) إلى حياة هذه العائلات داخلها. والمصوّر الأميركي تايلور ويدمان أمضى عامَيْن في تايلاند ليوثّق حياةَ هؤلاء السكان. وجمع هذه الصور في كتابه Boneyard (مقبرة العظام).



من مقبر تايلند


لبنانيّاً؟ وعربيّاً؟

أوضحت إدارةُ شركة «طيران الشرق الأوسط» لـِ»نداء الوطن» أنّها غير مُوكَلة بمهمّة التخلص من طائراتها عبر التفكيك أو إعادة التدوير. منذ نشأتها، «لا تحتفظ الشركة بالطائرات لمدة زمنية طويلة. فلا تُستهلكُ كثيراً ليكون أسطولُها الجويّ ذا حيويّة شابّة». إنّ طائراتِها إمّا مُستأجرَة أو مملوكة. «الأولى تُعاد إلى شركتها الأمّ بعد انتهاء مدّة العقد. أمّا الطائرات التي تشتريها، فتُباع بعد سلسلة اجتماعات ومفاوضات. آخر عملية بيع لطائرة مدنيّة أتمّتها «الميدل إيست» مع شبكة النقل العالمية CMA CGM التي حوّلتها من طائرة مدنية إلى طائرة نقل تجاريّ. أمّا عربيّاً، ولأنّ معايير منطقة وَجْدَة المغربيّة الصحراوية مشابهة لطبيعة أريزونا، فإنّ مشروعاً هو قيد الإنشاء هناك. سيساهم بالتخزين والتفكيك بمساحة ستتوسّع تباعاً من 10 إلى 50 هكتاراً.



لكل حطام مقام


قد لا تتحوّل الطائرة المُتوَفّاة إلى جيفة خرساء. الكثير من الطائرات حُمِلَت على كفِّ الإبداع والاستثمار من ساحات الخُرْدَوات وزُوِّدت بإكسير الشّباب: بُنيت طوابق مكتبة مكسيكية من هياكل مئتي طائرة. وجذبت مطاعم حول العالم السُّياح وسافرت بهم على متن طائرات ثُبّتت بالأرض بعد خروجها من الخدمة: في تركيا، الهند، في غانا، في العاصمة السورية دمشق، إلخ. وفي مدينة ستوكهولم السّويدية، ارتدت طائرة ثوب فندق واستقبلت نزلاءَها لا رَكّابَها. وفي جورجيا بعث مُدرِّسٌ الحياةَ في حُجرات طائرة سوفياتية أمست روضةَ أطفال... وقد تُباع بعض الطائرات العسكرية والمدنية بكلفة أقلّ، نظراً لمستواها المتدنّي، إلى الدّول النامية (وهذا حقل خصبٌ بدسامته، فساده وغشّه). وفي سياق آخر، فإنّ الطائرة ولو خرجت من الخدمة الجوّية، تبقى كثيرٌ من قطعها صالحة لإعادة التدوير. وتصل نسبة الاستفادة منها إلى 92%، بعد عملية تفكيك معقّدة. هذا القطاع، بِقيمتَيْه الاقتصادية والبيئية، يرصده التلفزيون الكندي في ماريبال شمال مونتريال الواقعة ضمن مقاطعة كيبيك الكندية. هي تُعدّ من أكبر المراكز العالمية في مجال المعدّات الجوية بعد تفصيص قطعها وتفاصيلها المنقولة من المقابر الجويّة.

هذه المقابر تزورُها تحقيقاتٌ تلفزيونية متعدّدة لتصنع حَلويات مشهدَيّة من غبار كراسٍ صائمة. تلاحق رائحةَ ركّاب جلسوا عليها ولم يعودوا إليها. تُلملمُ كاميرا تلفزيون بلجيكي، عن أرضية طائرة، كيسَ خبز مملَّح انتهت مدةُ صلاحيته في تسعينيّات القرن الماضي. ومذّاك توقّف الوقتُ في طائرة دخلت متحف الزمن. وانضمّت إلى سَليلتها الجوّية في مقبرة أريزونا. هذه الأمكنة مادّةٌ مثيرة للأسئلة وثَريّةٌ بالمعلومات. فيها ذكريات وأحلام طائرات مدنية حلّقت، تعِبت وضجِرَت. فيها حكايا طائرات عسكرية قصفت، خنقت أبادَت. تنبعث الطائرات الى حياة جديدة بعد التجديد أو التدوير. فتعود قطعُها إلى الحياة الحربيّة الجوّية. هل تحمل على أجنحتها صراخَ دم سبّبتْه في عشرات المعارك؟ هل تحتفظ ذاكرتُها الميكانيكيّة بوجوهِ بلاد ظلمَتها وشعوب ذَبحَتْها؟! هذه أسئلة شاعرية خياليّة غبيّة، أمّا على الأرض الواقعيّة الذكيّة...


MISS 3