محمد علي مقلد

التراشق السياسي بين الممانعة وخصومها

الصراع السياسي في لبنان كان محلياً خلال ثلاث ولايات رئاسية فحسب. بشارة الخوري، فؤاد شهاب وشارل حلو. انزلق في صراع الأحلاف الدولية في عهد كميل شمعون. الرؤساء في الحرب الأهلية وما بعدها استظلوا الحماية الخارجية أو أرغموا عليها. خلال وجود الجيش السوري تحول إلى صراع بين الممانعة وخصومها وظل مضبوطاً تحت سقف الوصاية. بعده، بدا ظاهرياً كأنه عاد إلى إطاره المحلي، كأنه تحرر بعد أن كان مكبوتاً، فاستقل لكن على حساب استقلال الوطن.

خلال عام الفراغ الرئاسي صار مكشوفاً على الملأ، وزادته حرب غزة انكشافاً. تتوزع الأدوار في خطاب الممانعة، وتُفتح المعارك على كل الجبهات. جبهة لإدانة الولايات المتحدة الأميركية التي كان إسمها الإمبريالية، باللغة اليسارية، وصار الشيطان الأكبر باللغة الخمينية، والتي تبنّت المشروع الصهيوني لتدافع عنه وتستند إليه. وثانية توزع الشتائم على من ينحاز إلى الصهيونية ويوفر تغطية لجرائمها، ولا سيما دول الغرب الأوروبي. ثالثة للعتب على حليفيْ الماضي، الصين الماوية وروسيا السوفياتية.

الجبهة الرابعة لم تقصّر في ذم المملكة العربية السعودية وكل دول الخليج إلى أن جاءت حرب غزة فشملت اللائحة الاتهامية كل الأنظمة العربية على تواطئها مع العدو ووقوفها موقف المتفرج حيال المواجهة بين المقاومة وإسرائيل. الخامسة تقدم شهادات «فقر حال» عن نظام سوري انتقل من عز استبدادي إلى فاقة في عروبة لم تعد نابضة. السادسة لتخوين كل لبناني لا يعترف بثلاثية الشعب والجيش والمقاومة.

حرب غزة فضحت هذا الخطاب المتهالك. كأنما تفاجأت «حماس» وكذلك مناصروها، بوحشية العدو، فراح الإعلام الممانع يعبّر عن استفظاعه مجازر الصهيونية، ويتسول التضامن والتأييد برفعه صور الدمار وأشلاء الضحايا. فهل درت «حماس» أم رمت نفسها في التهلكة من غير أن تدري؟ أم أحسنت الظن بردة فعل العدو؟ إنّ «حسن الظن من سوء الفطن». وإذا كانت الممانعة قد تفاجأت بمواقف الغرب الأوروبي فلأنها غارقة في جهل سحيق لمنظومة القيم التي بشّرت بها دول الحضارة الغربية ونشرتها سابقاً عن طريق الاستعمار وبعدها في الاستثمارات والاقتصاد الحر.

في لبنان بدأ خطاب الممانعة قوياً بعد التحرير ثم راحت تنكشف عيوبه حين تقلبت ذرائع السلاح من مزارع شبعا حتى السلاح لحماية السلاح، إلى أن جاءت فضيحة ترسيم الحدود البحرية، ثم زادت حرب غزة طين العيوب بلة حين تخلت إيران وحلفاؤها عن وحدة الساحات وعجزت المقاومة عن حماية الحدود وفرّطت بوعدها بضمانة العيش الهانئ والهادئ لأهل الجنوب واكتفت بتنظيم اللوائح للتعويض عن الخسائر، ولا من يعوض هذه المرة.

غير أنّ خطاب الممانعة ربح في الداخل اللبناني عندما نجح في جر خصومه إلى الساحة التي اختارها للسجال، فأرجأ الكلام عن الدولة وأنقذ مسؤوليه من تهمة الخيانة العظمى حين جعل انتهاك الدستور أمراً مستساغاً وجزءاً من تقاليد الجمهورية، ودفع إلى أولويات النقاش قضايا ثانوية وسخر من السيادة والسياديين استناداً إلى فهم مغلوط للمصطلحات المتعلقة بالوطن والدولة والدستور والسيادة.

هزئت قوى الممانعة من الديمقراطية وتصرفت بالتشبيح السياسي والعسكري من موقع المنتصر، مع أنها لم تحظ بالأغلبية في الانتخابات النيابية مرتين متتاليتين. غير أنّ خصومها لاقوها في منتصف الطريق بافتتاح أكثر عهود الجمهورية اللبنانية سوءاً. وفي اختتامه عجزوا عن توحيد صفوفهم في تشكيل لوائح الانتخابات التشريعية وفي تشكيل أطر التعاون بين كتلهم النيابية التي لم تكن كتلة التغيير نموذجها الوحيد.

حين تكون الأبواب مخلعة لا يُلام السارق.