عيسى مخلوف

الشمس المختفية تحت الرماد

16 كانون الأول 2023

02 : 00

من أعمال الحرب لبيكاسو

هل يوجد حُكم بالإعدام على شعب بأكمله استغرقَ تنفيذه، حتّى الآن، 75 سنة ولم ينته بعدُ؟ وما كان ليستمرّ طوال هذه السنين لولا مساعدة دول لا تفتأ تنادي بالعدالة والحرّيّة وحقوق الإنسان، ولولا تواطؤ المتواطئين صمتاً (الصمت الأشدّ هَولاً من القنابل) وتغطيةً للجريمة في وسائل الإعلام تارةً، وتارةً أخرى، في تزوير التاريخ... في غزّة، كشفت الحضارات الإنسانيّة عن أنيابها.

هل يوجد شعب في العالم سُفكَ دمه بهذه الطريقة الحثيثة المتواصلة، عاماً بعد آخر، على مدى عقود من الزمن؟ نعم، الهنود الحمر. ولذلك، لم تكن مصادفة أن يلتفت إلى قصّة إبادتهم محمود درويش فيكتب قصيدة عنوانها «خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض». في تلك القصيدة، جعل الشاعر الفلسطيني قضيّة فلسطين تَتَمرأى في القضيّة الهنديّة، وكتبَ الآتي: «لكُمْ ربّكم ولنا ربّنا، ولكم أمْسُكُم ولنا أمْسُنا، والزّمَانْ/ هُو النّهر حين نُحدّقُ في النّهر يَغْروْرقُ الْوقْتُ فينا/ ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا الْمذْبحةْ؟/ ألم تولدوا من نساءٍ؟ ألم ترضعوا مثلَنَا/ حليبَ الحنين إلى أمّهاتٍ؟ ألم ترتدوا مثلنا أجْنحةْ/ لتلتحقوا بالسّنونو. وكنّا نُبشّرُكمْ بالرّبيع، فلا تَشْهروا الأسْلِحَةْ!/ وفي وُسْعنا أن نتبادل بعض الْهدايا وبَعْضَ الغِناءْ/ هُنا كانَ شَعْبي. هنا مات شَعْبي» (...)

تلحظ قصيدة درويش القواسم المشتركة بين الشعبين، الشعب الفلسطيني والهنود الحمر، والمعاناة المشتركة وعلاقة كلّ منهما بأرضه. في شهر تشرين الثاني من كلّ عام، يُحتفل في الولايات المتحدة بـِ»عيد الشكر» الذي يرقى إلى مطلع القرن السابع عشر. ويرى بعض المؤرّخين أنّ هذا العيد له معنى آخر غير المعنى الرسمي المُعطى له، إذ يرتبط بمذبحة تعرّض لها الهنود الحمر على أيدي المستوطنين الأوروبيين بعد دعوتهم إلى وليمة ليشكروهم على مساعدتهم لهم والترحيب بهم، لكنّهم «ذبحوهم وشكروا الله لأنه ساعدهم في القضاء على المتوحّشين».

تتواصل الحرب على غزّة ويتّسع يوماً بعد يوم الانقسام الذي تشهده الحياة الثقافيّة في الغرب حيال ما يجري. لقد رصدنا في مقالات سابقة ما يحدث على هذا الصعيد في المجالات العلمية والأدبية والفنية. وما يظهر اليوم في هوليوود، عاصمة السينما العالمية، بين المؤيّدين للحكومة الإسرائيليّة من جهة، والذين يدينون الحرب وأهوالها، من جهة ثانية، يؤكّد، للمرّة الأولى، أنّ دعم هوليوود التاريخي لإسرائيل بدأ يتقوَّض. يكشف هذا الانقسام عن تطوّرات اجتماعيّة وإيديولوجيّة جارية ليس داخل الصرح السينمائي الأكبر فحسب بل أيضاً في المشهد الثقافي كلّه، في العالم أجمع. ويتضاعف هذا التصدُّع مع ارتفاع وتيرة العنف وعدد القتلى الأبرياء في غزّة. في هذا السياق، وجّه عدد من نجوم السينما رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي يطالبونه فيها بالعمل من أجل وقف إطلاق النار، ومنهم من بدأ إضراباً عن الطعام أمام البيت الأبيض. بعض الذين اتهموا إسرائيل بارتكاب إبادة جماعيّة أُلغيت على الفور عقود العمل معهم. وفي فرنسا، سحبت دار «فايار» الباريسيّة كتاباً بعنوان «التطهير العرقي في فلسطين» (صدر في العام 2008) للمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابي المعروف بانتقاده سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وهو يؤيّد الحقوق الفلسطينيّة في عودة اللاجئين وفي مقاومة الاحتلال. أمّا كتابه فيكشف كيف جرت عمليّات التطهير في فلسطين سنة 1948، وكيف كانت هذه العمليّات جزءاً من استراتيجية الحركة الصهيونيّة.

مُخطئٌ من يظنّ أنّه في منأى عن العنف الذي يُرتكَب في غزّة اليوم، أينما كان يتواجد في العالم. هذا العنف يتّخذ في الخارج أشكالاً عدّة تتمثّل في مصادرة الكتب والطرد من العمل والانقضاض على حرية الرأي والتعبير، ما يشكّل خطراً على الديموقراطيات نفسها. وسيزداد هذا العنف حدّةً مع ازدياد الذين تتكشّف لهم حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط. التعتيم الإعلامي على ما جرى كان جزءاً من ويلات هذا النزاع الطويل، لكنّه وصل الآن إلى طريق مسدود أمام حفلة القتل المروّعة، المكشوفة والموثَّقة، والتي تذهب بعيداً في ترسيخ شريعة الغاب، وتستهتر بجميع القوانين والاتفاقيات التي صدرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومنها اتفاقيات جنيف التي نصّت على معاملة الناس معاملة إنسانيّة حتى في أوقات النزاع المسلّح، والنظر إلى الأعداء بصفتهم بشراً.

ضمن هذا الأفق، ثمّة إذاً وعيٌ متزايد في أنحاء العالم لما يلحق بالشعب الفلسطيني، وللتهديد المحدق بالإنسانيّة جمعاء، وثمّة مَن لا يزال يؤمن بأنّه من غير الممكن استبدال الحوار بالحرب، والعدالة بالقهر إلى ما لا نهاية، وبأنّ الناجين سيظلّون يبحثون عن موتاهم بين الأنقاض وصولاً إلى الشمس المختفية تحت الرماد.


MISS 3