سوزان كولبيل

قصة السجين 760

19 حزيران 2020

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

سُجِن محمدو صلاحي رغم براءته في معتقل غوانتانامو لأكثر من 14 سنة. اليوم، تريد هوليوود إنتاج فيلم عن هذا الرجل الذي يقول إنه سامح معذّبيه. قبل السادسة صباحاً بساعات، تواجد محمدو ولد صلاحي في موقع التصوير. وقف على كثيب رملي على بُعد 30 كيلومتراً من جنوب نواكشوط، عاصمة موريتانيا. جهّز طاقم الفيلم الكاميرات والإضاءة حول نار مخيّم لتصوير مشهد من طفولة صلاحي. نام الصبي الذي يؤدي دور صلاحي في عمر العاشرة بالقرب من النار. سأل المخرج: "محمدو، ماذا قال لك والدك في الصحراء"؟ فابتسم صلاحي وأجاب أن والده كان ينشد له أغنية عن الله والحياة والموت. تدعو الأغنية البدوية إلى الوثوق بالقدر وتتعلق بقوانين الصحراء، التي تعلّمها محمدو من والده حين كانا يتنزهان ليلاً مع الجِمال. تعلّم صلاحي البدوي أن يحافظ على هدوئه في أصعب الظروف ويتقبل مصيره مهما كان. قد يفسّر هذا الجانب من شخصيته السبب الذي جعله يصمد في غوانتانامو.

الحب أولاً!

فترة الاعتقال حرمت محمدو ولد صلاحي من 5445 يوماً من حياته. خُطِف في موريتانيا على يد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية بعد أسابيع قليلة من اعتداءات 11 أيلول، لأن الأميركيين اشتبهوا بتورطه في ذلك المخطط، لكنه اشتباه خاطئ بالكامل ومع ذلك لم تعترف الولايات المتحدة بغلطتها أو تعتذر على فعلتها. في المرحلة اللاحقة، واجه هذا الرجل محنة فائقة على أقل تقدير. خضع صلاحي في البداية للاستجواب في الأردن ثم في أفغانستان، وسيق في النهاية إلى القاعدة العسكرية الأميركية في خليج غوانتانامو في كوبا، حيث أصبح "السجين 760".

اليوم، تحوّلت قصته إلى فيلم من بطولة جودي فوستر وبينيديكت كومبرباتش. من المقرر أن يصدر Prisoner 760 (السجين 760) في بداية العام 2021. يؤدي كومبرباتش فيه دور المدعي العام الأميركي المحافظ "ستيوارت كاوتش" الذي يُفترض أن يقاضي صلاحي، لكنه يتخلى عن القضية في نهاية المطاف بسبب قلة الأدلة التي تدينه. يقول المخرج كيفن ماكدونالد: "إنه فيلم تشويق سياسي، وهو يثبت أن مجتمعاتنا بدأت تتغير".

في صباح أحد الأيام من منتصف شهر آذار، كان صلاحي يجلس في شقته المؤلفة من غرفة ونصف، في فناء هادئ في وسط نواكشوط. كان يستعد للذهاب إلى موقع التصوير مجدداً بعد بضع ساعات. فسكب الشاي في أكواب مياه وراح يتكلم عما فعله معذّبوه الأميركيون حين ساقوه إلى البحر الكاريبي في زورق سريع. كان مكبّلاً ومعصوب العينين وجسمه مغلّف بالثلج لإخفاء آثار العنف. أخبروه بأن أحداً لن يهتم إذا اختفى في المحيط بكل بساطة. ثم ضربوه إلى أن كسروا ضلوعه.

في البداية، يقول صلاحي (49 عاماً) إنه كان غاضباً لأقصى الدرجات: "كنت أستطيع رمي قنبلة داخل البيت الأبيض"!

حين خلع جلبابه الواسع وعمامته، تبيّن أنه رجل نحيل وحليق الرأس وذو وجه ناعم. كان يرتدي سروالاً وقميصاً. تحت ردائه الفضفاض، كُتبت عبارة Choose Love (اختر الحب) على قميصه القطني الأسود.

"بابي مفتوح دوماً"!

على عكس الكثيرين، لم يفقد صلاحي صوابه في غوانتانامو. كان السجين المصري رقم 535 مثلاً يظن أنه ذهب إلى الجحيم. وفي العام 2003 وحده، حاول 120 سجيناً الانتحار. يتراجع العدد الذي تحرر من المعتقل ونجح في استرجاع حياة طبيعية. يقول صلاحي إن أصوات طفولته ساعدته على تجاوز أحلك اللحظات.

لم تُرجعه وكالة الاستخبارات المركزية إلى الموقع الذي اختطفته منه قبل عقد ونصف إلا في 17 تشرين الأول 2016، في مطار نواكشوط. بحلول تلك الفترة، لم تعد حياته السابقة موجودة. توفيت والدته وخسر شقيقه عمله الذي كان يستورد عجلات السيارات من ألمانيا. قابل صلاحي أبناء وبنات أشقائه المراهقين للمرة الأولى، فهو لم يكن يعرف بوجودهم أصلاً.

بعد إطلاق سراحه، توجّه في منشور على "فيسبوك" إلى جميع من حرسوه وأساؤوا معاملته قائلاً: "لقد تعلّمنا دروساً كثيرة من بعضنا. أتمنى أن نلتقي مجدداً ونشرب كوباً من الشاي معاً. بابي مفتوح دوماً. أنا سامحتُ من عذّبني". إنها الطريقة الوحيدة برأيه لتجاوز هذا المصير من دون أن يفقد الإنسان صوابه.

ردّت مُحققة من البحرية الأميركية على منشور صلاحي بصورة من عطلتها أمام جدار برلين، فكتبت له: "مرحباً بيلو! أتمنى أن تكون بخير. يسرّني أن أراك في ديارك". "بيلو" (وسادة) هو اللقب الذي أطلقه الجنود على صلاحي. اختاروا له هذا الاسم لأن الوسادة كانت أول غرض استطاع صلاحي إدخاله إلى زنزانته، بعد أقسى جولة تعذيب تعرّض لها على مر 70 يوماً. كذلك، كتب له جندي آخر يسمّي نفسه "جيدي": "أريد أن أقول لك بكل بساطة إنني آسف على أي أذى سبّبتُه لك يوماً. أتمنى لك أفضل ما في الحياة".

عمل "جيدي" في معكسر الاعتقال في خليج غوانتانامو بين العامين 2003 و2004، تزامناً مع أحلك اللحظات التي عاشها صلاحي. كان هذا الجندي يهزّه مراراً وتكراراً لإيقاظه ويحرمه من النوم والطعام، لكنه يجبره على الأكل في أوقات الصوم. ردّ عليه صلاحي قائلاً: "مرحباً يا أخي! لطالما كنتَ لطيفاً معي. هل تتذكر مشروب "ماونتن ديو" والمافن بنكهة التوت؟ أشكرك على ردّك". أقام صلاحي أيضاً صداقة مع أحد الحراس. كانا يلعبان الشطرنج ويشاهدان الأفلام. منذ سنتين، زاره الجندي السابق ستيف وود في موريتانيا.

لكن حتى اليوم، لا يزال صلاحي يعاني من تداعيات التعذيب الذي تعرّض له. غرفة نومه ليست أكبر من زنزانته السابقة. هو لا ينام إلا وحده وغالباً ما يحلم ليلاً بأنه عاد إلى غوانتانامو ويتمدد عارياً على الأرض تحت مصابيح النيون، فيما يصدح النشيد الوطني الأميركي في أنحاء الغرفة ويصرخ المحققون في وجهه. لقد أصبح على بُعد آلاف الأميال من كوبا الآن، لكنّ جزءاً من غوانتانامو لم يفارقه يوماً.





نظرة على حياته

تزوج صلاحي مجدداً منذ سنتين. قابل زوجته الجديدة عبر شبكة الإنترنت، وهي أميركية تعمل في برلين. لديهما ابن عمره سنة اليوم. تُعتبر هذه العلاقة بداية جديدة له لكنها تطرح تحدياً كبيراً بحسب قوله: أصبح الإذلال الجنسي الذي اختبره في غوانتانامو جزءاً منه. لا تزال أي لمسة تُسبّب له الألم وتُجدّد ذكرياته القديمة. لكنه يستفيد من الكتابة ولحظات الوحدة.

اليوم، حين يتجول صلاحي في أحد شوارع حي "تفرغ زينة" ويتجاوز مقهى "سفاري" وفندق "سميراميس"، يطلق السائقون أبواق سياراتهم عند رؤيته وتنادي الفتيات باسمه وكأنه نجم روك. يطلب منه البعض التقاط الصور أيضاً. في موريتانيا، أصبح صلاحي بطلاً حقيقياً. لا يعتبر الناس هناك تجربة غوانتانامو وصمة عار، بل تظن الفتيات أنه قاوم الظلم الأميركي وهزم أعظم قوة عالمية بفضل قوته الداخلية.

في غوانتانامو، كتب صلاحي كتاباً بعنوان Guantánamo Diary (مذكرات غوانتانامو) وسرعان ما حقق أعلى المبيعات وتُرجِم إلى 27 لغة. يُعتبر هذا الكتاب المرجع الصادق الوحيد عن تجربة سجين سابق دوّن حياته أثناء وجوده في السجن. أطلقت محامية صلاحي، نانسي هولاندر، معركة قانونية دامت لسنوات ضد السلطات الأميركية لنشر الكتاب.

يشكّل ذلك الكتاب أيضاً ركيزة لفيلم Prisoner 760. هو يسرد قصة فتى بدوي من قبيلة "إداب لحسن" في جنوب غرب موريتانيا. نال في شبابه منحة دراسية من "جمعية كارل دوسبيرغ" في ألمانيا بسبب تفوّقه في المدرسة. ثم درس لاحقاً هندسة الكهرباء وعاش في ألمانيا طوال 12 سنة.

في أحد الأيام، تلقى صلاحي اتصالاً من نسيبه الذي لَحِق مؤسس "القاعدة"، أسامة بن لادن، إلى السودان واتصل به من هاتف الإرهابي ليطلب منه المال لوالده المريض، فلبّى طلبه. اعترض الجواسيس الأميركيون تلك المكالمة واستنتجت وكالة الاستخبارات المركزية من ذلك الاتصال أن صلاحي هو المسؤول عن تجنيد العناصر في ألمانيا: إنه خطأ لم تعترف به الوكالة يوماً!

"رجــــــل ســــــيــــــئ"!

بعد أيام على لقائنا الأول، وقف صلاحي على الشاطئ في نواكشوط. كانوا يصورون مشهد زفاف حيث يجتمع مئات الضيوف في خيمة بدوية. ارتدى الحاضرون ملابس احتفالية وصدحت الموسيقى في المكان وراح الجميع يرقصون. أدى ممثل فرنسي دور صلاحي وكان السفيران البريطاني والأميركي من بين الحضور وبدا الجو العام ممتعاً.

تؤدي جودي فوستر دور "نانسي هولاندر"، محامية صلاحي. تقول في مقابلة مع صحيفة "شبيغل": "لقد انجذبتُ إلى القصة العاطفية أولاً ثم رحلة محمدو المريعة. يصعب أن نتخيل مدى قدرة الشخص على تحمّل هذه الظروف".

حين قابلت المحامية هولاندر السجين للمرة الأولى، لم تكن تعرف إذا كان بريئاً أو مذنباً. لكنها تصرّح لصحيفة "شبيغل" اليوم: "محمدو رجل بريء اضطر لمواجهة سلطة الدولة المطلقة وخسر حقوقه الجوهرية".

تزعم الحكومة الأميركية أن صلاحي رجل مُتلاعب خطير. بنظر المسؤولين عن مراقبة صلاحي حتى اليوم، يؤكد دعم محامين مشهورين من أمثال هولاندر لصلاحي مجاناً على هذه الشبهة. يبقى صلاحي بالنسبة لهم رجلاً بارداً وذكياً و"سيئاً". هذا ما يكتبه الدبلوماسيون الأميركيون على الأقل لحلفائهم حين يقدم صلاحي طلب تأشيرة إلى بلدان غربية، بما في ذلك ألمانيا.

في غضون ذلك، أنهى صلاحي دورة تعليمية عن بُعد في أكاديمية دولية كي يصبح مدرّب حياة. هو يقدم توصياته اليوم لعملاء في الولايات المتحدة وسويسرا وبريطانيا عبر "سكايب": "من خلال هذه الخطوة، أدركتُ أن عدداً كبيراً من الناس يواجه مشاكل مشابهة لما عايشتُه". يجد معظم عملائه صعوبة في إقامة العلاقات ويفتقرون إلى حب الذات.

على صعيد آخر، أنهى صلاحي كتابه المقبل الذي يتمحور حول بدوي يُضيع جَمَله بعد لحاقه بعربة خاطئة ويسرد مغامرات صاحبه، فيما يحاول إيجاد الحيوان الذي يحبه وكأنه فرد من عائلته. يتمنى صلاحي أن يكسب لقمة عيشه من الكتابة ويريد النضال في سبيل حقوق الإنسان.

هو يرغب في السفر إلى برلين حيث تعيش زوجته وابنه، لكنه لم يحصل على الإذن بذلك حتى الآن. منذ إطلاق سراحه من غوانتانامو، ترفض ألمانيا منحه التأشيرة التي يحتاج إليها!