رامي الرّيس

متى تتصالح باريس مع فكرة تراجع نفوذها الدولي؟

23 كانون الأول 2023

02 : 01

ماكرون خلال تفقّده جنوداً فرنسيين في الأردن أمس (أ ف ب)

فرنسا ليست بخير، والسياسات الفرنسيّة ليست بخير هي أيضاً. الانكسارات والخيبات السياسيّة والاقتصاديّة الفرنسيّة متتالية: من التراجع الكبير في النفوذ الذي تعود جذوره لعقود خلت في القارة الأفريقيّة، إلى إضطراب العلاقات مع الحليفين الرئيسيين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على خلفية صفقة عسكرية ضخمة لأستراليا، إلى الموقف المتطرف مع الاحتلال الإسرائيلي والتغاضي شبه التام عن الحقوق الفلسطينية، إلى الوضع الداخلي المأزوم سياسياً ومعيشياً واجتماعياً.

الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي تنتهي في العام 2027 وهي غير قابلة للتجديد، كانت محطة سياسية مفصليّة في تجربة الرجل الذي وصل إلى الحكم في أواخر الثلاثينات من عمره، وقد وعد بألّا تكون بمثابة تتمة للسنوات الخمس التي انتهت والتي شهدت تظاهرات احتجاجيّة على خلفيّة قضايا اجتماعيّة ومعيشيّة أهمّها تظاهرات «السترات الصفر».

وشهدت فرنسا في عهد ماكرون أيضاً تصاعد لموجات الاسلاموفوبيا، ولم تساعد المواقف والأدبيات الرسميّة على إطفائها أو الحدّ منها، فبينما مُنع اللباس الديني الإسلامي في المدارس بحجّة أنه يناقض القوانين والأعراف العلمانيّة، أقيم في القصر الرئاسي احتفال للديانة اليهوديّة في واحدة من أكثر لحظات الاحتدام في الشرق الأوسط على خلفيّة الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة التي حصدت حتى كتابة هذه السطور ما يزيد عن عشرين ألف شهيد، وهي لا تزال مستمرّة تحت مرأى ومسمع العالم بأكمله.

وشكّل الانحياز الرسمي الفرنسي المبالغ فيه إلى إسرائيل مفاجأة للمراقبين الذين كانوا يعتبرون أن باستطاعة فرنسا أن تتّخذ موقفاً أكثر إنسجاماً مع طبيعة الصراع وجذوره التاريخيّة التي تدركها باريس أكثر بكثير من العديد من العواصم الغربيّة، بحكم تواجدها القديم في المنطقة وانتدابها لسوريا ولبنان بين عامي 1920 و1943، وهي التي كانت شريكة محوريّة في اتفاقيّة سايكس - بيكو التي توزّعت فيها مراكز النفوذ مع غريمتها بريطانيا.

وإذا كان من غير المتوقع ألّا يكرّر الرئيس الفرنسي «لازمة» حق إسرائيل في «الدفاع عن نفسها» التي أتاحت للاحتلال ممارسة الإبادة الجماعيّة في فلسطين، إلّا أن اقتراحه بتشكيل جبهة دوليّة لمحاربة «حماس» والإصرار على تشبيهها بتنظيم «داعش»، طرح الكثير من علامات الاستفهام حيال خلفيّات الموقف الفرنسي ومآلاته.

بطبيعة الحال، ليس هناك في الغرب، وفي فرنسا طبعاً، من يطرح السؤال البديهي حول أحقيّة دولة معتدية بالاحتلال على أراضي الغير بأن «تدافع عن نفسها»، ولكن هذا واقع الحال الذي يفرض نفسه بموازين القوى التي يصّر الغرب على أن تحافظ إسرائيل على «تفوقها» العسكري في الشرق الأوسط.

ومن المفارقات الغريبة بالنسبة إلى فرنسا، هو قرار منع التظاهر دعماً لفلسطين والذي كُسر شعبيّاً وقانونيّاً من خلال التظاهرات الضخمة التي طالبت بوقف الحرب ومحاسبة إسرائيل، من دون أن يؤثر ذلك على الموقف الرسمي الفرنسي ولو أنه شهد تعديلات طفيفة أو «ترميم» محدود من خلال الطلب بإقامة هدنة إنسانيّة، من دون أن يحظى هذا الطلب بأي رد إسرائيلي كما هو معلوم.

وعلى الرغم من زيارة الرئيس الفرنسي إلى تل أبيب التي «حج» إليها العديد من قادة الغرب، إلّا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قلما إكترث حقاً للموقف الفرنسي أو أعاره أهمّية سياسيّة جدّية، باستثناء الاستقبال الفولكلوري الذي أقيم لماكرون كما أقيم للعديد من الرؤساء ورؤساء الحكومات والقادة الغربيين.

«الانكسار» الفرنسي لم يقتصر على ملف بعينه، بل طال العديد من القضايا الأخرى. على الصعيد اللبناني، عيّن ماكرون وزير الخارجيّة السابق جان إيف لودريان موفداً رئاسياً خاصاً للبنان للمساعدة في انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة وفعّل الاتصالات الإقليميّة والدوليّة لهذا الغرض من دون طائل.

تبدو استعادة النفوذ الفرنسي على الصعيد الدولي مسألة تكتنفها الكثير من المصاعب والعقبات بسبب تغيّر موازين القوى الدوليّة، ولعل الوقت قد حان لإقرار باريس بهذه الوقائع الجديدة والعمل بموجبها.


MISS 3