جايكوب ماكهانغاما

أدلّة متزايدة على تراجع حرية التعبير

23 كانون الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

واجهت مظاهر حرية التعبير حول العالم تحديات كبرى في العام 2023. حتى الديمقراطيات المنفتحة فرضت تدابير صارمة لمحاربة مجموعة من التهديدات، منها خطابات الكراهية، وحملات التضليل، والتطرف، والاضطرابات العامة.



يعكس قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي هذه النزعة بالذات. بعد هجوم حركة «حماس» ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول، أرسل رئيس القسم السيبراني في المفوضية الأوروبية، تييري بريتون، مجموعة من الرسائل الصارمة إلى شركات التكنولوجيا، مثل «ميتا»، و»غوغل»، و»تيك توك»، و»إكس» («تويتر» سابقاً)، للاستفسار عن ردودها على خطابات كراهية غير محددة، و»محتويات إرهابية»، و»حملات التضليل»، وهدد بفرض غرامات على الجهات غير الملتزمة بالمعايير المعتمدة. أطلقت سياسات بريتون العدائية تُهَماً بانتهاك معايير حقوق الإنسان الدولية. لكن رغم هذه التطورات كلها، تعتبر ديمقراطيات عدة قانون الخدمات الرقمية مشروعاً عالمياً لتنظيم الإنترنت، وتتجه تشيلي وكوستاريكا وتايوان إلى إقرار قوانين مستوحاة من النموذج الأوروبي.

في غضون ذلك، تراجع الحق بالاحتجاج بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فرضت فرنسا وألمانيا حظراً واسعاً على التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في البداية وبرّرتا هذا القرار بانتشار خطابات الكراهية ومخاوف على النظام العام. كذلك، توسعت القوانين المضادة للكراهية والإساءات والإهانات بدرجة كبيرة في ديمقراطيات عدة. في إنكلترا مثلاً، تعرضت امرأة للملاحقة والاستجواب من الشرطة لأنها رفعت لافتة ساخرة يظهر فيها رئيس الوزراء البريطاني ووزير الداخلية كشخصيات تؤيد تفوّق أصحاب البشرة البيضاء. سبق وأُدين مستشار أسود وليبرالي للمدينة بسبب مضايقاته العنصرية واستعمال هذا النوع من المصطلحات.

في أيرلندا، من المنتظر أن يُجرّم قانون جديد حول خطابات الكراهية «أي مواد قد تحرّض على العنف أو الكره ضد شخص أو مجموعة محددة من الأشخاص عبر نشر تلك المواد وسط الرأي العام أو جزء منه من جانب الشخص المعني أو عبر فرد آخر». قد يسمح هذا التعريف العام وطريقة تطبيقه بتجريم الميمات المضحكة أو الصور التي يتم تنزيلها على الهواتف الخلوية أو الحواسيب المحمولة». كذلك، أعادت الحكومة الدنماركية إقرار جريمة التجديف، بعد إلغائها منذ العام 1946، فبدأت بتجريم «التعامل غير المناسب» مع النصوص الدينية. في الوقت نفسه، لم تعد الحرية الفنية محصّنة ضد القيود أيضاً. اتضح ذلك في كوريا الجنوبية حيث ألغت أمانة الجمعية الوطنية عرضاً في ردهة مبنى البرلمان بسبب تجسيده لرئيس البلد بطريقة غير لائقة.

في هذا السياق، ذكر تقرير جديد صادر عن «مشروع مستقبل حرية التعبير» أن تآكل هذه الحرية بهذا الشكل الدراماتيكي في الديمقراطيات ليس حدثاً مستجداً أو معزولاً، بل إنه جزء من تراجع عالمي لحرية التعبير في الديمقراطيات المنفتحة.

يحلل ذلك التقرير النزعات السائدة في 22 ديمقراطية منفتحة حول العالم، بين العامين 2015 و2022، علماً أن هذه الفترة شهدت أحداثاً عالمية محورية، منها اعتداءات إرهابية مدمرة، وجائحة «كوفيد-19»، والحرب في أوكرانيا، وحملات تضليل أطلقتها دول استبدادية مثل روسيا والصين.

تبدو هذه النزعات واضحة ومقلقة بالقدر نفسه. يشير 78% من التطورات التي يذكرها الخبراء في البلدان المشارِكة في الاستطلاع إلى زيادة القيود المفروضة على حرية التعبير. باستثناء العام 2015، شهدت كل سنة في هذه الفترة تطورات كبرى على مستوى كبح حرية التعبير (على عكس التطورات التي تحمي هذا الحق)، وقد ظهر معظمها على شكل قوانين رسمية وزاد عددها بدرجة قياسية في العام 2022. كان الأمن القومي، والتماسك الوطني، والسلامة العامة، من أبرز الأسباب التي تفسّر قمع حرية التعبير.

في خضم المعركة القائمة ضد التطرف الإسلامي، تبنّت الدنمارك مجموعة قوانين لمنع دخول الدعاة الدينيين إذا كانت تعاليمهم تُضعِف «القيم الدنماركية»، ولتجريم ارتداء البرقع والنقاب ومنع الخطابات الدينية التي ينشرها «دعاة الكراهية». كذلك، جرّمت كوستاريكا تدنيس أو عدم احترام العلم أو الرموز الوطنية الأخرى.

على صعيد آخر، يفرض قانون التجسس والتدخل الأجنبي الأسترالي عقوبات صارمة قد تصل إلى السجن لمدة عشرين سنة بتهمة تسريب أو تقاسم المعلومات الحساسة التي تتعارض مع المصالح الوطنية. أطلق نطاق القانون الواسع وعقوباته القاسية جدلاً كبيراً حول تأثيره الهائل على حرية الصحافة والمصلحة العامة التي تتأثر على الأرجح بالرقابة الذاتية. ربما لم تتخذ أي ديمقراطية تدابير مكثفة لقمع خطابات «الإرهاب» بقدر إسبانيا، حيث حُكِم على مغني الراب والناشط السياسي الكاتالوني بابلو هاسل بالسجن لتسعة أشهر بتهمة تمجيد الإرهاب وشتم التاج ومؤسسات الدولة في كلمات أغانيه وتغريداته التي تهاجم النظام الملكي والشرطة.

في غضون ذلك، ضاعفت الديمقراطيات جهودها لكبح خطابات الكراهية. في العام 2022، منعت كندا إنكار محرقة اليهود، أو التغاضي عنها، أو الاستخفاف بها. وأقرّت ألمانيا «قانون إنفاذ الشبكة» لمحاربة خطابات الكراهية، وهو يفرض على مواقع التواصل الاجتماعي التي تشمل أكثر من مليونَي مستخدم حظر أو حذف المواد غير القانونية خلال 24 ساعة من تلقي الشكوى لتجنب الغرامات. وفي العام 2021، وسّعت ألمانيا نطاق قوانينها لتجريم الإهانات المبنية على الكراهية. أدى هذا الموقف العدائي إلى آثار ملموسة: ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» في العام 2022 أن أكثر من ألف ألماني واجه تُهَماً بنشر خطابات الكراهية على الإنترنت منذ العام 2018، وشملت بعض القضايا مداهمات مبكرة للشرطة ومصادرة أجهزة شخصية. كان لافتاً أن تُستعمل القوانين الألمانية ضد خطابات الكراهية والإهانات للتحقيق مع الأفراد بسبب تعليقات تنتقد السياسيين وتثير المخاوف من تأثيرها على حرية التعبير عن الآراء السياسية. تبنّت جنوب أفريقيا بدورها قانوناً ضد خطابات الكراهية على الإنترنت، وهي بصدد إقرار قانون عام آخر في هذا المجال. لكن اعتبرت محاكم جنوب أفريقيا، بما في ذلك المحكمة الدستورية، أن حرية التعبير تحمي جميع أنواع الخطابات، بما في ذلك المواقف المسيئة أو العدائية.

يكشف نطاق القيود المفروضة على الآراء في مجموعة الديمقراطيات المتراجعة أن الأنظمة الديمقراطية تواجه تحديات خطيرة فعلاً، لكنّ العلاج المقترح لتلك المخاطر يبدو أسوأ من المرض بحد ذاته. يجب أن تحذر الديمقراطيات المنفتحة تحديداً من المبالغة في استعمال الأدوات التي تستخدمها الديمقراطيات الشائبة أو غير الليبرالية مثل الهند، والمجر، وحتى البرازيل، بما في ذلك فرض الرقابة على المعارضين وزيادة سيطرة الحكومة على الأماكن العامة.

لن تكون النزعة إلى حل المشاكل الاجتماعية والسياسية المعقدة عبر وسائل القمع خطيرة من الناحية المبدئية فحسب، بل يسهل التشكيك بقدرتها على معالجة تلك الاضطرابات.

رغم الجهود الألمانية الرامية إلى قمع خطابات الكراهية، لاحظت السلطات زيادة في حوادث معاداة السامية بنسبة 300% بعد هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول. في غضون ذلك، يُحقق حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف نتائج أفضل من أي وقت مضى في استطلاعات الرأي. يُفترض أن يعتبر الجميع فوز المرشّح الهولندي المعادي للمهاجرين، غيرت وايلدرز، تحذيراً من تضخم حملات القمع بدل إسكات الأصوات غير الليبرالية. تجدر الإشارة إلى أن وايلدرز كان قد أُدين بإهانة جماعات معينة وخضع للمحاكمة بتهمة التحريض على الكراهية والتمييز، لكن تمت تبرئته منها.

عملياً، تزداد الأدلة التي تثبت أن حرية التعبير تحدّ من اندلاع الصراعات العنيفة في الديمقراطيات المنفتحة بدل تأجيجها. يبدو الرابط الإيجابي بين حرية التعبير والسلام الاجتماعي صحيحاً على مستوى الإرهاب تحديداً. يتعلق أحد الأسباب بـ»نظرية صمام الأمان» التي تفترض أن السماح لجميع الناس، بما في ذلك المتطرفين، بالتعبير عن مشاكلهم بدل قمعهم يُضعِف احتمال لجوئهم إلى العنف. ومن خلال السماح للمتطرفين بالتعبير عن أفكارهم، من الأسهل على وكالات إنفاذ القانون أن تُحدد وتراقب الجماعات الأكثر ميلاً إلى تحويل مواقفها العدائية إلى أعمال عنيفة.

لا يعني التخلي عن النزعة المتسارعة إلى قمع الخطابات المسيئة بالضرورة تجاهل التحديات الحقيقية التي تواجهها الديمقراطيات بسبب الجماعات التي تريد تخريب المجتمعات المنفتحة وقِيَمها. في ما يخص خطابات الكراهية، يُفترض أن تُعطى الأولوية لتسهيل الخطابات المضادة (عبر شبكة الإنترنت وعلى أرض الواقع)، فضلاً عن تلقين قيم التسامح والمساواة في المدارس والمناهج التعليمية. كذلك، يجب أن يصبّ التركيز على التعبير رسمياً عن التضامن مع ضحايا الآراء المتطرفة وإدانة المرتكبين للتأكيد على أهمية الأقليات والجماعات الهشة ودورها القيّم في المجتمع.

أخيراً، تستطيع الجامعات وشركات التكنولوجيا وجماعات المجتمع المدني أن تسهم في إنشاء نظام من المعلومات والأفكار لتعزيز الثقة، والتعاون، والمصداقية، بدل نشر الانقسامات والعدائية، ما يسمح بتقليص حملات التضليل وخطابات الكراهية التي تثير قلق الديمقراطيات. تتوقف بدائل الرقابة الخالية من القيود على الاعتراف بقدرة حرية التعبير على تمكين الناس وتحسين وضعهم ومكانتهم. هذا هو العامل الذي يميّز الديمقراطيات عن الأنظمة الاستبدادية وغير الليبرالية.


MISS 3