مصطفى علوش

عن يوسف الواقع في البئر

27 كانون الأول 2023

02 : 00

«أنا يوسف يا أبي إخوتي لا يحبونني لا يريدونني بينهم يا أبي... يريدونني أن أموت لكي يمدحوني وهم أوصدوا باب بيتك دوني وهم طردوني من الحقل هم سمّموا عنبي يا أبي وهم حطموا لعبي يا أبي... هم أوقعوني في الجب واتهموا الذئب، والذئب أرحم من إخوتي»

(محمود درويش)

بليغة وجارحة تلك القصيدة التي استوحاها محمود درويش من سيرة يوسف النبي ليصف بها فلسطين المنبوذة والمتروكة للذئب، المرمية في البئر والمباعة للعبودية.

لا يمكن لمن هم مثلي، من عاشوا على قصة فلسطين، ومن تربّوا على حكايا النكبة، ومن أكلوا وشربوا على صوت أم كايد العجوز وهي تسولف عن تفاصيل النكبة ومأساة النزوح، والأهم من حلموا وتمنّوا، بصدق، بساطة الموت مضرجين بالدماء على تراب فلسطين، أن يتحولوا فجأة إلى متفرّجين حياديين، يتأسفون ويندبون المجتمع الدولي الميت أمام الظلامة الكبرى، وينتهون بالإقرار بأنّ لا حول لهم ولا قوة، ومن بعدها يشتمون العرب والمسلمين لتلكئهم عن نصرة فلسطين. وبعد دقائق أو ساعات أو أيام أو أسابيع، ينسون أنّ يوسف واقع في البئر، أو أنه غارق لا محالة إن لم تمتد له يد لتنتشله، أو أنّ الذئب سينهش لحمه إن لم يجتمع الإخوة للذود عنه، أو يتركونه فيستعيضون عن جبنهم وخيانتهم بمديح يوسف بعد موته!

لكل هذا، من الصعب على من هم مثلي أن يكونوا عقلانيين في تحليلاتهم ومواعظهم في لحظات الموت والغضب، لأننا سنكون بالنتيجة مجرد منافقين يدعون الناس إلى التعقّل وضبط النفس، فيما الناس المجروحون يرفعون رايات وشعارات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، يلوحون بمفاتيح عملاقة صدئة لبيوت مُحيت عن الخريطة، وذاكرة الحاج أبو عايد عن بيارات وأشجار برتقال في يافا، ودموع الحاجّة وهي تتغزل بحبّات الزيتون التي كانت تجمعها من الكرمل، وأحاسيس الرهبة والخشوع في أزقة القدس العتيقة، ومعانقة السماء في الحرم القدسي، أو صلوات العم بشارة، والد الشهيد نبيل، كل أحد في كنيسة مار مارون في طرابلس بأن يعود يوماً ويجلس على شرفة منزله المطلة على بحر يافا. كلهم يحلفون بأنّ خروجهم من بيوتهم لم يكن من اختيارهم ولا لأنّهم شاركوا أو يشاركون في مؤامرة هم في الأساس ضحاياها الأول. علينا نحن المتفرجين العاجزين التوقف عن التهليل لإنجازات غارقة بالدماء والركام، والإحتفال بها حتى وإن أدت إلى الهلاك، وفي كل الأحوال فإنّها عادة تخدم أعداءنا، في حين أننا نعوّض عن عجزنا عن إنتاج أي شيء نافع بالخطب على المنابر، بسيل جارف من الأشعار، بنهر هادر من الاستنكار، ووعود ترعد بالويل والثبور، والحديث عن نبوءات وعلامات الساعة وأقوال مأثورة...

لسنا نحن في موقع الناصح ولا الموجّه، لكن المثال الذي أعطته القيادات المتناحرة بالتقاتل على جلد الدب السارح في الغابات، فيما الذئاب متروكة لتنهش من لحم فلسطين، لن يعطينا الأمل بمستقبل غير الماضي. ولا يبدو حتى الآن أنّ المأساة وحمام الدم سيدفعان أصحاب القضية لتغيير المسار المتدحرج نحو الهاوية. فإن كان هناك درس واحد يمكن فهمه مما حصل ويحصل فهو أن الوحدة في التوجه والقيادة هما المطلوبان لتحقيق أي شيء نافع، وأن المزايدة أكانت بالخطابات أو بالمزيد من الدماء والتضحيات لم تخدم سوى الأعداء. فلا الانتحار في الماورائيات وقصص الملاحم نفع، ولا الانبطاح للأمر والواقع والسلطة التافهة والفساد والربح المؤقت نفع. ولا مجال بعد اليوم، وربما منذ اغتيال رابين ومن بعده أبو عمار، للبحث عن حل وهمي في اتفاقية أوسلو.

لا شيء ينفع سوى مراجعة خارج نطاق ردّات الفعل للمسار، وليس الصبر التافه بانتظار حل الدولتين هو الجواب، ولا رفع الأصابع فوق جثامين الشهداء وعلى تلال الركام هو الجواب، وردات الفعل بعمل انتقامي أهوج سيكون ما يريده العدو ليغطي على مجازره. علينا أن ندرك أن إسرائيل هي كيان لا يأخذ الطاقة إلا من خلال الموت، والسبيل الوحيد للانتصار عليه هو بالسعي للحياة وليس بالموت.

هناك حقيقة راسخة لا يمكن المراوغة حولها وهو أن هناك أماً وطفلاً وجداً فلسطينيين راسخون في الأرض كشجر الزيتون يريدون الحياة بكرامة وأمل بالغد، يسعون إلى الرزق والعلم والمعرفة على أرض يحكمها القانون بالمساواة بين الجميع، من دون قهر ولا دمار ولا أهوال. حل الدولتين لا حياة له حتى وإن تحقق، حل الدولة الواحدة هو السبيل الوحيد لنهاية متسارعة للدولة اليهودية، وانتفاضة الحجارة هي المثال الذي يمكن التماثل معه.


MISS 3