طوني عطية

"اللواء" غير المتقاعد... في بحث عن "النجومية"

29 كانون الأول 2023

01 : 59

اللواء عباس إبراهيم (رمزي الحاج)

لم يشأ عام 2023 أن يترك لخلفه دورة الزمان من دون تواقيع. فالتاريخ على تعقيداته هو ببساطة رزمة أحداث. وداع وترحيب. إذ شكّلت السنوات الأربع الأخيرة في لبنان، «رباعية دفعٍ» نحو الهاويات ومحاولات الاجتياز: من ارتفاع موجة 17 تشرين وضمورها، إلى استقبال الفيروس الصيني الهارب من اعتقاله المخبري، مُلطّخاً الكتلة البشرية بطولها وعرضها، مروراً باندساس الموت في مرفأ بيروت وصولاً إلى سنة الهزات والزلازل تحت الأرض وفوقها مع هبوب طوفان الأقصى.

يحزم العام الحالي أمتعته، مع الحفاظ على بعض مسلّمات مدرسة الشذوذ السياسي اللبناني كالشغور الرئاسي والتخبّط الوزاري والتشريعي... في المقابل، سجّل وقف تسلّل الفراغ إلى رأس المؤسسات العسكرية بالتمديد لقادتها، الأمر الذي أغاظ بعض «مونتسكيو» الدستور زوراً. غير أنّه وضع آخرين على لائحة السابقين، منهم من هو مُطارد قضائيّاً كرياض سلامة ومنهم من يسعى إلى أدوار سياسية كالمدير العام للأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم، الذي يُقال عنه، إنه «لو كان مارونيّاً لكان أكثر المحظوظين رئاسيّاً»، نظراً لحركته وعلاقاته الداخلية والخارجية المتشعّبة والمتناقضة. أو كما يتهامس بعض الأوساط السياسية والشعبية بأنه «ربّما» يدخل نادي رؤساء مجلس النوّاب المختوم بالشمع المستحيل في ظلّ وجود الرئيس نبيه برّي صاحب أطول ولاية رئاسية برلمانية في لبنان والعالم العربي.

تخطّى دور ابراهيم مقار الأمن العام وملفّاته الأمنية. نجح في تدوير الزوايا وإيجاد التسويات متنقّلاً بين أفخاخ وتناقضات القوى السياسية. شغّل محرّكاته على خطّ بعبدا - السراي في عهد رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون في حمأة الخلاف بينه وبين رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي نجيب ميقاتي، وقبله مع سعد الحريري. كان اللواء مطلوباً في كلّ قضية ومهمّة كأنّه «قطريّ» يُجيد لعبة التوسّط والمفاوضات. برز اسمه في قضية تحرير مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا والكشف عن مصير العسكريين المفقودين في عرسال، والسعي إلى معرفة مصير مطراني حلب المخطوفَين يوحنا ابراهيم وبولس اليازجي، وصولاً إلى تحرير اللبناني نزار زكا من سجنه الإيراني، ولم يوفّر ملف النازحين السوريين من متابعته ولو أنّ مساهمته بقيت شكلية.

ذاع صيته بعد الدور الذي لعبه في تحرير الرحّالة الأميركي سام غودوين من سجون النظام السوري، بعدما تمكّن والدا سام من الوصول إلى الضابط اللبناني وكان سبق له أن نحج في إطلاق عدد من الرهائن الغربيين والأميركيين المحتجزين في سجون ومعتقلات الأسد، فيما بقي موضوع المعتقلين اللبنانيين في السجون السوريّة طيّ الإهمال والإعجاز.

استطراداً، مدّت المديرية العامة للأمن العام جسور الأدوار السياسية إلى العديد ممّن تبوّأوا منصبها، رغم أنّ المطابخ السياسية لا تستهوي مزاج ومزايا العسكريين، لكن، لمدراء الأمن العام خصال خاصة تتشكّل نتيجة طبيعة عملهم وعلاقاتهم. نذكر منهم «الأمير» فريد شهاب أول مدير للأمن العام (1948 – 1958) الذي عُرف بـ»أبو الأمن العام». كما أدّى الأمير الآخر المدير الخامس للأمن العام فاروق أبي اللمع (1977 – 1982) دوراً مهمّاً في عهد الرئيس الياس سركيس الذي ضمّه إلى مطبخه السياسي. أمّا المدير الثالث زاهي البستاني الذي تسلّم المديرية مع انتخاب أمين الجميّل عام 1982 واستمرّ في مهامه إلى أن قدّم استقالته بعد سنتين (1984)، فشكّل وجوده عاملاً محورياً في صعود نجم بشير الجميل وانتخابه رئيساً للجمهورية.

لا تقاعد

بالعودة إلى المدير الثاني عشر للأمن العام عبّاس ابراهيم، يحمل «الجنرال غير المتقاعد» في يمينه إنجازات أمنية ودبلوماسية، وفي يساره إخفاقات وانتكاسات، أبرزها خيبته تجاه حلفائه، الذين لم يتمكّنوا من التمديد له عجزاً أو تواطؤاً على عكس ما حصل مع قائد الجيش العماد جوزاف عون. إذ يتردد أنّ «حزب الله» لم يضغط كفاية لتمرير التمديد الذي وقع بين فكّي عين التينة والسراي الحكومي. فتمكّن الرئيس برّي بـ»حنكته» من «تفخيخ» الجلسة التشريعية في مجلس النوّاب، بوضع اسم المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، على لائحة المُمدَّدين لهم، لإحراج رئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» النائب جبران باسيل ومقاطعته الجلسة التي لم تنعقد أساساً ومعمعة القضية عبر تقاذف التهم والمسؤوليات لا سيّما بين نوّاب «أمل» و»التيار».

كما لم يُكتب لقطار التمديد الوصول إلى محطّة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، الذي وجد «المخرج» المطلوب لانتهاء رحلة اللواء في الأمن العام، مع العلم أنّ الأخير كان يُعوّل على «فرامانات» ميقاتي بعد احتجاب «أرانب» برّي. وانطلاقاً من المثل القائل بأنّ «ظلم الأقارب أشدّ وقعاً من السيوف»، لم يجد ابراهيم أي منفذٍ جديّ إلى الميدان السياسي، فعند الاستحقاق النيابي الأخير كان بإمكانه الاستقالة من منصبه والترشّح على أحد المقاعد في الجنوب أو في جبيل، لكن يبدو أن «همسة الرضى» لم تصل إلى مسامع اللواء، فعزف عن الاستقالة وتأجّلت رحلة النيابة إلى العام 2026، إذا ما جرى الاستحقاق في وقته.

رغم ذلك، شكّلت شخصيته الوسطية والهادئة حاجة لأهل الربط والحلّ في لبنان. حظي بدعم «الثنائي الشيعي»، وبحكم وظيفته كان يتبع مباشرة إلى وزارة الداخلية التي يرأسها سنيّ، وكان مستشاراً أمنيّاً لرئيس الجمهورية الماروني. هذه التقاطعات جعلته رجل المرحلة في تلك المرحلة. يأبى اللواء ابراهيم دخول نوادي الجنرالات المتقاعدين، أو أن يكون محلّلاً عسكرياً واستراتيجيّاً، أو محاضراً في الندوات واللقاءات، بل أعلن عقب انتهاء ولايته أنه يعدّ بهدوء خطواته الأولى في السياسة «من دون أن أحصر ذاتي بدور محدّد، أو باعتماد خطة معدّة سلفاً. ولكن إن أتيح لي الخيار فأنا أختار وزارة الخارجية، وهو منصب يتلاءم مع مساري خلال أعوام الخدمة».

بالتالي، وفي ظلّ قبضة الحزبين داخل البيئة الشيعيّة، هل يُصبح الوجه الثالث للثنائي الشيعي، ومن أي باب؟ عبر الانتخابات النيابية المقبلة أم من خلال التوزير الحكومي؟ أم أنه قد يستمرّ في خندق الوساطات والمفاوضات بعد كشفه أنه أدّى «دوراً متواضعاً» في اتفاق إخراج الأجانب من غزة مقابل خروج جرحى فلسطينيين للعلاج في مصر وإدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع الفلسطيني. فهل يشير دوره «المتواضع» إلى تراجع نجم عبّاس ابراهيم والاستعانة بخدماته، أم أنه قد يستفيد من رصيد علاقاته الخارجية ليشيّد مساحته السياسية المستقلّة وغير المنفصلة في آن عن المنظومة الداخلية وتحالفاتها الزئبقية وبراغماتيتها الشديدة؟ كيف سيستثمر رجل الأمن والمفاوضات وزناته المتراكمة في عالم السياسة؟

MISS 3