عيسى مخلوف

قضيّة جيرار دوبارديو تُغطّي على دمار غزّة!

6 كانون الثاني 2024

02 : 01

بيانات الفنّانين بين قضية دوبارديو ووقف إطلاق النار في غزّة (الصورة، نقلاً عن مواقع التواصل)

في السابع من كانون الأوّل الماضي، بثّت القناة الثانية الفرنسية تحقيقاً وثائقياً يكشف الوجه الآخر للممثّل الفرنسي جيرار دوبارديو من خلال تصريحاته المتحيّزة جنسيّاً ضدّ النساء. وكان الممثّل اللامع، المعروف عالميّاً، قد اتُّهم في العام 2020 بالاغتصاب والاعتداء الجنسي. أثارت هذه القضيّة ردود فعل واسعة، وتباينت حولها الآراء. هناك الذين وقفوا بجانبه، باسم الفنّ، ووقّعوا على بيان يستنكر «الحملة الشرسة» ضدّه ملمّحين إلى أنّ «موهبته يجب أن تحميه من الانتقاد، بل وتعذره على سلوكه الذي لا يُطاق»، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، وقّع 150 فناناً من العاملين في الحقل السينمائي والثقافي على بيان يندّد «بإفلات الممثّل من العقاب» على اعتبار أنّ العدالة تقوم على المساواة وتطبّق على الجميع. في خضمّ هذا السجال، تدخّل الرئيس الفرنسي معلناً أنّه «أشدّ المعجبين بجيرار دوبارديو»، مضيفاً أن «الممثّل ساهم في الشهرة العالميّة لفرنسا ومؤلّفينا العظماء(...) وأنّ فرنسا فخورة به».

مع هذا الموقف الرسمي، تحوّلت قضية دوبارديو إلى سلاح سياسي عند البعض، لا سيّما اليمين المتطرّف، كما ترك صدى كبيراً، خصوصاً لدى الحركات النسائيّة، وفي مقدّمها حركة «مي تو»، إضافة إلى فئة واسعة من النساء في فرنسا. وكان سبب دهشة هؤلاء أنّ موقف الرئيس ماكرون من الموضوع يتعارض مع سياسته التي جعلت مسألة المساواة بين الرجال والنساء من أولويّات عهده.

وجهة النظر في هذا المجال واضحة: تتحقّق حماية الفنّ من خلال الرفض القاطع لاستخدامه ذريعة لممارسة التسلّط والتحرُّش والعنف الجنسي. النجاح الفني لا يمكن أن يكون، في أيّ حال، مبرّراً لتهميش معاناة الضحايا، فضلاً عن أنّ الموهبة لا تعني تجاوز المعايير والحدود والاعتداء على سلامة الآخرين.

جيرار دوبارديو ليس حالة فريدة في هذا الشأن، وليس الوحيد الذي يعيش انفصاماً وهوّة شاسعة بين ما يمثّله بصفته نجماً عالميّاً وممارساته اليوميّة وسلوكه الشخصي. إنّ اتخاذ موقف من سلوك فنّان معروف لا يعني مهاجمة الفنّ. بخلاف ذلك، إنّ محاكمة دوبارديو هي دفاع عن قيم الفنّ والجمال. ليس غريباً أن يتجاوز الإبداع، مرّات، مبدعيه، وأن تكون الكُتب، في أغلب الأحيان، أكثر قُرباً إلينا من كتّابها أنفسهم.

في المقابل، لا يمكن أن نحكم على نتاج فنان انطلاقاً من سلوكه ومن آرائه السياسية والاجتماعية. لا يمكننا أن نلغي إنجازاته ودوره في المشهد الأدبي والفني والثقافي، وإلا فلماذا لا نلغي لوي أراغون (صاحب كتاب «مجنون إلسا») الذي وقف مع ستالين، ولماذا لا نتخلّص من كتب خورخي لويس بورخس وهو إحدى الظواهر الأدبية في القرن العشرين، والجميع يعرف ما كانت عليه مواقفه السياسية اليمينية؟ ولوي فردينان سيلين الذي كان أحد عُتاة العنصريّين، وسان جون بيرس الذي لم يكن نرجسيّاً وحسب، كغالبيّة النرجسيّين، بل كان أيضاً، في بعض تصرّفاته، شخصاً لا يُحتمَل؟ لماذا لا نلغي سعدي يوسف بسبب شطحاته التي تشارف، أحياناً، التمييز؟ ولماذا لا نلغي أوغست رودان بسبب تعامله مع النحّاتة كاميّ كلوديل التي أحبّته حتّى الجنون؟ اللائحة طويلة ولا تنتهي، شرقاً وغرباً، وفيها أمثلة تبلغ حدود الفظائع...

الفنّانون ليسوا كلّهم كالفنّان الإيطالي تيسيانو الذي عاش في مدينة البندقيّة في القرن السادس عشر، وكان، حين تسقط الريشة من يده، يترك كارلوس الخامس ينحني ويرفعها عن الأرض. صحيح أنه يصعب علينا أن نتقبّل من الأدباء والفنانين ما يفرضه علينا أهل السلطة والسياسة. فالسياسة، كما يقول جورج أورويل، هي، على العموم، «وسَخ»، وتجري خارج معايير القيم والأخلاق وفي إطار مصلحيّ آنيّ، بينما الإبداع هو - وكما نحلم دائماً أن يكون - تَعامُل مع الجماليات والإنسانيات. لكن، في الواقع، قلّما نجد مبدعاً على المستوى الشخصي في مستوى إبداعه. والقلّة الموجودة من هذا الصنف قد ترتقي إلى مصاف القدّيسين!

مع تكاثر البيانات والبيانات المضادّة، أصبحت قضيّة جيرار دوبارديو أحد المواضيع الأساسيّة التي تشغل الوسط الثقافي الفرنسي الآن، ولقد شغلته، كما تشغل العالم قضايا أخرى، أكثر بكثير من حفلة الإعدام المنظَّمة التي تَطُول شعباً بأكمله.

MISS 3