حسان الزين

"القرن العشرون انتهى عندنا في 1967"

جاد تابت: لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي

6 كانون الثاني 2024

02 : 04

جاد تابت: لا يمكن فهم أنطون تابت إذا لم نفهم ما جرى في العالم
إختار جاد تابت أن يروي سيرة والده المهندس أنطون تابت من خلال تاريخ لبنان الحديث المتأثر بلا شك بمتغيّرات العالم في القرن العشرين. فجاد تابت يجد بين لبنان وأنطون تابت توأمة تتجاوز التزامن في الولادة إلى كونهما إبني عصرهما. وقد عاشا ذلك وخاضا تجربته ومغامرته، من بحمدون القرية ومصنع الحرير، إلى باريس الجامعة ومختبر الثقافة والعمارة، إلى موسكو الثورة البلشفية؛ ومن هموم الكوكب ومخاطر الفاشية والنازية والحروب الساخنة والباردة، إلى شؤون العرب والتحرر الوطني ومناهضة الصهيونية والإستعمار؛ ومن حاجات المجتمعات والإنسان، إلى التيارات السياسية والأيديولوجية، إلى اتجاهات الفنون. هكذا، يكتب حكاية «لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي» كان مهندساً وسياسياً لعب دوراً تجاوز حدود لبنان وما زالت بصماته قائمة في معالم معمارية في لبنان وفلسطين وسوريا.

فيما تعيد في الكتاب بناء «بدايات لبنان» و»سيرة المثقف الحداثوي» توحي بالنهايات، أو كأنك تقف على الأطلال!

المرحلة التي يتناولها كتاب «لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي» (رياض الريس للكتب والنشر) هي مرحلة حياة أنطون تابت (1905- 1964)، وهي مميزة جداً. وفي فصل «شبان يركبون التاريخ»، أروي كيف شهد ورفاقه، في العقد الثالث من القرن العشرين، انقلاب العالم بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء الإمبراطوريات ومنها العثمانية، إضافة إلى الثورة الروسية التي قضت على القيصرية وأسّست الاتحاد السوفياتي. وآنذاك، قُسِّمت المنطقة ووضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي وتحوّلت فلسطين إلى بؤرة صهيونية. أنطون تابت ورفاقه، أنطوان موراني ونعمة إدّه وجورج شحادة، عاشوا ورأوا وضعاً كان يتحرك مع أنه كان يبدو جامداً إلى حد ما. وهذا فعلاً هو بداية لبنان ومفهومه.

وأتكلم على الحداثة، المثقف الحداثي، لأن تلك المرحلة كانت أيضاً مرحلة انتقالية. كانت هناك الحداثة التي دخلت إلى المنطقة في أواخر العصر العثماني، أي النهضة العربية. ولاحقاً، كانت هناك حداثة الخمسينات والستينات، بعد الاستقلال (1943)، التي أخذت شكلاً آخر: بناء الدول القومية والوطنية. هذه المرحلة بين العشرينات والخمسينات هي مرحلة انتقالية دخلت فيها الحداثة بشكل مختلف. لم تكن حداثة النهضة فحسب، أخذت طابعاً مغايراً وأشكالاً متعددة. البعض، جماعة الفينيقيين الجدد، اتجه إلى الفرنسيين. البعض ذهب نحو اليسار، وادخل مضموناً اجتماعياً. والبعض رفع راية القومية السورية. هذه مرحلة حداثة فعلاً. وفي البداية، لم تكن ملامحها محددة. في الخمسينات والستينات، تحددت إلى حد ما معالم الحداثة بالمشروع القومي العربي والتحرري.

تقول إن زمن الكتاب هو عمر أنطون تابت، إلا أنك «توحي» بأن الستينات كانت عقد نهاية أو نهايات؟

رغبت في أن يبقى الكتاب في الفترة التاريخية لأنطون تابت ورفاقه. وفي الفصل الأخير، تناولت ما حصل لاحقاً. فبعد نحو ثلاث سنوات من وفاة أنطون تابت، حلّت الهزيمة العربية عام 1967 ودخل عالمنا في مرحلة مختلفة. وأعتقد أن القرن العشرين انتهى عندنا في 1967. لاحقاً، دخلنا في مسار لا علاقه له بكل ما كان قبل الهزيمة. كأنّه قرن ثان. ووقفت هنا، لأن بدأ جيل جديد غير جيل أنطون تابت، هو جيلنا. ولعلّي سأتناول ذلك في كتاب مقبل.

يحمل الكتاب عنوان «لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي»، وهو ليس عن أنطون تابت فحسب، بل عن جيله وذاك التاريخ... هل تعتبره تأريخاً؟

من خلال أنطون تابت أتكلّم عن جيل وعن تاريخ، ولكن ليس كمؤرخ، لأنني لست مؤرخاً ولا أدّعي ذلك. المؤرخ يربط الأمور، والمسبّبات والنتائج، وفي سياق تاريخي. أنا لم أقم بذلك. انطلقت من شخصية انطون تابت ورفاقه لأحكي عن مرحلة معينة برأيي كانت مميزة في تاريخ لبنان والعالم ككل، مرحلة كانت فيها الاحتمالات متعددة. صحيح ان هذه الاحتمالات لم تتجسد كلها بمشاريع متكاملة، ولكن كانت هناك احتمالات تختلف عن المسار الذي دخلنا فيه. وهذا ليس نقداً للمسار ولكن هذا ما حصل.

في كثير من الفصول، ترسم العالم كله، أي ماذا يحصل في باريس وواشنطن وموسكو، وتمهّد بذلك لتروي ماذا فعل أنطون تابت... السؤال هو لماذا اعتمدت ذلك، أهو تأثير مهنتك الهندسة أم من طبيعة تلك المرحلة: المثقف أممي والبلدان تتأثر بما يحصل في العالم؟

تأثير مهنتي حاضر في بنية الكتاب وأسلوب السرد، لكن في تلك المرحلة كان كل ما يحصل في لبنان والعالم العربي مرتبطاً مباشرة بما يحدث في العالم. غريب إلى أي مدى تأثير ما يحصل في العالم في لبنان.

تأثير العالم كان في السياسة والثقافة والأيديولوجيا. أنظر مثلاً الى الثلاثينات وما هي الأحزاب التي تأسّست: الشيوعي والقومي السوري والكتائب والنجادة. كلّها من تأثير العالم. كل شيء كان عالمياً. الآن، هذا موجود، ولكن كان أكثر. تلك مرحلة كانت فيها السياسة والثقافة والفنون والعمارة تتأثر ببعضها. وكان لبنان لولب هذه القصة، وقد تحول صلة وصل بين الشرق والغرب، بين الاستعمار الغربي والداخلي العربي.

لا يمكن فهم أنطون تابت إذا لم نفهم ما جرى في العالم. هو ابن عصره. وهو كان في الحزب الشيوعي الأكثر انفتاحاً على هذه الأمور، بحكم دراسته في باريس وارتباطه بالحركة الثقافية هناك والصداقات التي جمعته مع شخصيّات معمارية وثقافية عالمية. كان، مثلاً، السكرتير العام لعصبة مكافحة النازية والفاشيستية في سوريا ولبنان، ونائب رئيس مجلس السلم العالمي، وشارك في أنشطة ذات صلة بعدم الانحياز. كان رمزاً للحزب الشيوعي والوجه المنفتح العالمي له. كانت هذه ميزته فهو انتسب إلى الحزب وكان قد وصل إلى مركز اجتماعي مهم. كان من أكبر المهندسين في منطقة المشرق.



أنطون تابت وروّاد الحداثة المعمارية في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة



ما هي العوامل التي حاصرت مثقفاً حداثياً ومهندساً لديه بعد اجتماعي، والتزم في السياسة، ورسم وكتب الشعر والمقال (في العمارة والثقافة والسياسة)؟

المسار الذي دخله لبنان بعد الاستقلال بتصميم فرنسي. لقد سيطرت فئة معينة من التجار وأصحاب المصارف والاقطاع في المناطق والاقطاع السياسي، وبنت جمهوريّتها. لم يكن ممكناً في هذا الجو أن يفعل انطون تابت أكثر مما فعل. لذلك، اهتماماته العالمية كانت أكبر من الداخلية. هرب من الوضع الداخلي الضيّق إلى أفق أوسع. اهتم بالتحرر الوطني (العربي) وبالسلم العالمي وعدم الانحياز وبمناهضة الفاشية ومواجهة الصهيونية. كان يسافر كثيراً. اعتقد أن الجو اللبناني الذي كانت تسيطر عليه هذه الفئة كان أضيق منه. كان أفقه أوسع.

وهذا «الجو اللبناني» حاصر النماذج الثلاثة من المهندسين التي وجدت آنذاك: جوزيف نجار وفريد طراد وانطون تابت، الأوّل المهندس الذي يعمل في الدولة، والثاني في القطاع الخاص، والثالث اليساري ذو البعد الاجتماعي والتحديثي؟

صحيح. وغريب كيف أن الثلاثة وهم رواد العمارة حداثويون، وهم أسسوا نقابة المهندسين. وإذا ما نظرت إلى تاريخ نقابة المهندسين تجد أن هؤلاء الثلاثة تناوبوا على منصب النقيب (نجار، ثم تابت لمرتين، ثم عاد نجار، ثم طراد لمرتين). هؤلاء أسسوا المهنة. كل واحد في اتجاهه. ولكنهم كانوا أصدقاء ويحترمون بعضهم.

نهج نجار هو النهج الذي أرساه الرئيس فؤاد شهاب، العمل من خلال الدولة لإنماء المناطق وتقليص التفاوت الاجتماعي. أما طراد فهو مختلف. كان مهندساً نموذج قطاع خاص، ولكنه كان يمارس المهنة بطريقة تقنية. اليوم نموذج طراد موجود، ولكن بطريقة مختلفة. وخط أنطون تابت تقلّص أو اختفى. القطاع الخاص تحكمه قواعد السوق. اختفى البعد الهندسي وبقيت السوق. هذه النماذج الثلاثة سقطت، ويقتضي بنا الكتابة عنها.



لبنان



هذه النماذج ظلمها لبنان الضيق والأحداث السياسية... هل مشروع الحداثة في البلد قد ظُلِم؟

أكيد. لبنان صغير. وأي مشروع حداثي لم يكن ممكناً أن تُبقى حدوده. كان من المفترض أن ينفتح لبنان على العالم العربي. وهذه مشكلة أساسية. وهناك نشوء دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية حوّلتا مسار حركة التحرر الوطني العربية والحداثة في اتجاه معين. وأعتقد أن هناك تناقضاً في طيات مشروع الحداثة عربيّاً، كان يحاول تقليد الحداثة الغربية المستحيلة المنال بسبب السيطرة الاستعمارية من جهة، ومن جهة ثانية حاول إعادة الأمجاد القديمة. صار الأمر فولكلوراً.

بين دمارين: من الحرب العالمية إلى الهزيمة العربية مروراً بنكبة فلسطين

لا يعلم جاد تابت إذا ما كان الكتاب المخصص لسيرة أنطون تابت يشبه هذا الأخير أم لا، لكنّه لا يستبعد أن يشبه الكاتب. ولأن أنطون تابت غائب، حاول المؤلّف أن يجمع سيرة «المثقف الحداثي» وأطياف رفاقه ويعيد بناء زمنهم. ويستدرك: «لكن، أنا أروي انطلاقاً من نظرتي الحالية، ومن هذا الزمن. لو كتبته من عشرين أو أربعين عاماً لكنت كتبته بطريقة أخرى. هو كتاب اليوم، على الرغم من أنني حاولت العودة إلى الوثائق الخاصة بتلك الفترة. وفي النهاية، عندما تكتب تنتقي ما تتناوله وتستبعد أموراً أخرى. والانتقاء ينطلق من نظرتك وزمنك.

إزاء هذا، حرص جاد تابت خلال تأليف الكتاب ألا يقيّم تلك المرحلة وتجربة أنطون تابت. وعلى الرغم من ذلك، ثمة في الكتاب «شيء من الموقف». ففي الفصل الأول من الكتاب يروي جاد تابت بحثه عن بيت جده في بحمدون، حيث عاش أنطون تابت، وقد دُمِّر في حرب الجبل. وفيما يجد الراوي أن إعادة بناء المنزل والحي لم ترجعهما إلى صورتهما السابقة، لا يُخفي حنينه وإحساسه بالتغيّرات الهائلة التي لا يستسيغها كمهندس وكإبن تلك العائلة. وهكذا، يودّع لبناناً مضى أو ضاع في الحروب والأحداث والأخطاء السياسية. وبعد رحلة تاريخية طويلة تستعيد أحداثاً عالمية وعربية ولبنانية، سياسية وثقافية، ومحطات وشخصيّات، يصل الكاتب إلى بيت أنطون تابت في بيروت، وقد دمّرته الحرب أيضاً. «لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي»، وفق جاد تابت، «بين دمارين». وعلى الرغم من ذلك لا ينعى الحداثة، «لأنها تتجدد». أمّا لبنان القديم فربما انتهى.

وما هي الحداثة التي انتمى إليها أنطون تابت، ولم يحلّلها أو يقيّمها مؤلف كتاب سيرته؟ يجيب جاد تابت: «المشروع التحرري العربي، الذي بدأ في الخمسينات مع ثورة الضباط الأحرار في مصر والتيار القومي العربي وما إلى ذلك، كان مهماً بلا شك، ولكنه محدود، ومحدوديته هي أنه بحسب قسطنطين زريق يقوم على أن التغيير يبدأ من فوق. الدولة تأتي والجيش يقمع المجتمع ويفرض التغيير. هذا برأيي أحد أسباب الهزيمة. وقد رغبت في الإشارة بالكتاب إلى وجود احتمالات أخرى. كان من الممكن أن يكون المسار مختلفاً، والحداثة تدخل بطريقة مختلفة. لم يحدث هذا. عصفت أحداثٌ سياسية كبرى، مثل نكبة فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل، عجلت بهذا الاتجاه. لو لم يحصل ذلك كان من الممكن أن تتغير أمور كثيرة.

MISS 3