منصور بطيش

هل من وضعوا موازنة 2024 يعيشون فعلاً مع اللبنانيين؟

6 كانون الثاني 2024

15 : 50

عِندَ قِراءة فَذلَكة مَشروع قانون المُوازنة العامّة والمُوازنات المُلحَقة، للعام 2024، كما صَدَرَت عَن وزير الماليّة بكِتابه إلى مَجلِس النُوَّاب بتاريخ 26 تشرين الأوَّل 2023، وبَعدَ التَمَعُّن بأرقامِها ومَراميها، يتساءل المرء: هل فعلاً من وضعوا تلك الموازنة يعيشون مع اللبنانيين ويختبرون ما يختبره هؤلاء من أزمات، لم تبدأ منذ العام 2019 إنما تعمّقت وتشعّبت حتى باتت تخنق البلد؟.


قد تكون هُناك إجراءات نادرة يمكِن اعتِبارُها نُقطة بِداية مَقبولَة، كاحتِرام المِهَل الدُستوريَّة للمَرَّة الأولى مُنذُ سِنين وتَصحيح بَعض الرُسوم، لَكِنَّها تَبقى خَجولَة ولا يَختَلِجُ في طَيّاتِها أيُّ نَفَسٍ إصلاحيّ، حتَّى في المُحاولة الشَكليَّة لتَخفيض عَجز الخَزينة. لكن في الإجمال يمكن تسجيل الآتي:


كلام إنشائي

١- تتضمّن الفَذلَكة كلاماً إنشائيَّاً، غَيرَ واقِعي، وهوَ لِذَرِّ الرَماد في العُيون، وقد تَعَوَّدنا عَليه على مَدى السَنَوات، كتَخفيض النَفَقات غَير المُجدِية وتَوفير الخَدَمات العامَّة للمُواطنين وتأمين استِدامة القِطاع العام، ولَجم التَهَرُّب الضَريبيّ ومُكافَحة التَهريب، وتَعزيز السِياحة وحَرَكة الصادِرات، وإعادة الاقتِصاد إلى خارِطة النُمُوّ الحَقيقي المُستَدام، كأنَّ هَذه الدَولة قد بلَغت مِن الرُشدِ مكاناً وأنَّ سَاعِدَها قَد اشتَدَّ لتَحقيق كُلّ ذلك.


غياب الخطة الإنقاذية

٢- لا يُقارِب مَشروع المُوازَنَة مُشكِلاتنا الأساسيَّة ولا يَعكُس أيّ خُطّة إنقاذيَّة، وبالتالي لا يُشَكِّلُ فرصةً مُتاحة للنُهوض. هوَ لَيسَ التَرجَمَة الأوَّليَّة لخُطَّة التَعافي، ولا يَعتَرِف بالواقِع الاجتِماعي، ويَفتَقِد لفلسَفة اجتِماعيَّة ولرؤية اقتِصاديَّة، إذ لا يُضِيء على توَجُّهات إصلاحيّة أساسيَّة في الماليّة العامّة وفي بُنية الاقتِصاد. فمَثَلاً نِسبَة الضَرائِب المُباشَرة مِن إجمالـي الإيرادات لا تَزال مُنخَفِضة جِدَّاً مُقارَنة بالضَرائِب والرُسوم غَير المُباشَرة، وهذا مؤَشِّرٌ غَيرُ عادِل وغَيرُ صِحّي على الإطلاق. ونَسأل، هَل يُمكِن تَحصيل كلّ الإيرادات المُرتَقَبة في ظِلّ نِظام التَعامل نَقداً (اقتِصاد الكاش) المُتَحَكِّم بالسُوق المَحَلِّية طالَما لَمْ تُقَرّ الإصلاحات الماليَّة، أم أنَّ مَسار تَحميل هذه الأعباء على عاتِق المُلتَزمين بالقوانين، فقط دونَ سِواهم، لا يزال سارياً؟


الفقر والإفلاس

٣- يَكاد لا يَظهَر في مَشروع قانون المُوازنة أيّ أثَر يُذكَر لمُواجَهة الفَقر المُتَنامي والمُتَفاقِم، ومُعالَجة شِبه إفلاس الضَمان الاجتِماعي والصِحّي، وتَصحيح رَواتِب العامِلين في القِطاع العام، وكَبح تَدَهور المُستوى التَعليمي...


هيكلة الدين

٤- لا يَتَضَمَّن مَشروع المُوازَنة أيّ آليّات لإعادة هَيكَلة الدَين العام، ولا يَلحَظ أيّ مؤَشِّرات مهمّة للإصلاحات البُنيَويَّة المُفتَرَضة، لا سِيَّما في مَجالات الطّاقة والاتّصالات والنِظام الضَرائِبي، وبَرامِج الحِماية الاجتِماعيَّة والرِعاية الصِحيَّة حَيث لا تَوَجُّهَ جِدِّياً في هذا الإطار.


أرقام ومقارنات

٥- هَذه المُوازنة هيَ مَجموعة أرقام جَرى تَركيبُها على غِرار ما كانَ سائِداً قَبلَ الأزمة وفي خِلالَها، ولا يبدو أنَّها تستَنِد، كما يُفتَرَض، إلى أداء الأشهُر السِتَّة أو السَبعة الأولى مِن العام الحالي 2023. ولِلعِلم، تَبلُغ إيرادات الخَزينة، المُرتَقَبة في مَشروع المُوازنة، 3.12 مليارات دولار، ما نِسبَته قُرابة 14% فَقَط مِنْ إجمالي الناتِج المَحَلِّي. ويَبلُغ إجمالي النَفَقات 3.32 مليارات دولار، مِنها 3.1 مليارات دولار نَفَقات جاريَة، أي أنَّ النَفَقات الاستِثماريَّة تُمَثِّل أقَلّ مِنْ 6.7% مِنْ مُجمَل الإنفاق العام.


ولمَزيدٍ مِنَ التَوضيح ومِنْ بابِ الاستِطراد، تَجدُر مُقارَنة حَجم هَذه المُوازنة الهَزيلة للدَولة اللبنانيَّة المُستَضعَفة:

ـ بِحَجمِ مُجمَل ميـزانـيَّــات مُـنَـظَّمات الـ NGOs العامِلة في لبنان لِلُبنانـيَّـيـن ولِلنازِحيـن ولِلّاجِئِيـن،

ـ وَبِحَجـمِ تَمويـل أحزاب وتَنظيمات فـاعِلة فـي لبنان،

ـ وَبِـالـحَجمِ الـمـالـي لِـكـارتيلات أصحاب المُوَلِّـدات الخاصَّة، وَكـارتيلات شَـبَكـات الإنتـرنـت،

ـ وَبِحَجم التَـهَـرُّب الـضَـريبي الذي قدَّرَته وزارة المالـيَّـة بِمــا بَين 1.2 مـليار دولار وَ1.65 مليار دولار سَنويَّــاً فـي خِـلال الـفَـتـرَة المُمتَـدَّة مِـن العام 2010 إلـى العام 2019، مــا مُعَدَّلُـه 1.425 مليـار دولار سَـنويَّــاً، والذي قَد يكون وَصَل إلـى مـلـيـارَي دولار سَــنـويَّــاً فـي خِـلال عـامَـي 2022 وَ 2023،

ـ وَبحَجم عَمَليَّـات الـتَهريب علـى اختِلاف أنواعِـهـا.

هَـذا، مِـنْ دونِ أنْ نَــنسـى حَجـم مـا سُـمِّـي تَضليلاً "هَـندَسـات مـالـيَّـة" كـانَ يُـمـارِسُـها مَصرِف لبنان فـي خِلال الحِقبة السابِقة عـلـى مَدى سَـنَواتٍ طِوال، والكُـلفة الباهِظة لتِلكَ المُمارَسات الشَاذَّة عـلـى الاقتِصاد والـناس، وهـيَ جَريمةٌ مــالـيَّـة غَيـر مَسبوقَة يَـنكَفِـئ مُعظَم القَضاء عَن مُحاكَـمة مُـرتَـكِبـيها.

فَـكَيفَ يُـمكِن بِـهَذه الأرقــام وبِوَضعِـيَّـة كهذه إعـادة بِـنــاء الدَولة ومـؤَسَّسَاتـهـا علـى أساس العَدالة والقـانون؟


إزدواجية المعايير

٦- لا تـؤَشِّـر هَذه المُوازنة على الـتَـنـاغُم المَفروض بَـيـن الـسِياسـات الماليَّـة والاقتِصاديَّـة والنَقديَّـة. فَـهَلْ يَجوز مَـثَـلاً القُبول بازدواجيَّـة احتِساب الضَرائِب علـى أساس سِعـر صَـرف السُوق فـيما يحصل الـمُواطِـنون على بَعضٍ يَسيـرٍ مِن ودائعِهم علـى سِعر 15 ألف ليرة، إذا كان المبلغ خارِج إطار الـ400 دولار شهريَّاً؟


لَكِن بِالمُقابِل، هَل يَجوز السُكوت والتَغاضي عَن الاعتِراضات على بعض التَصحيحات في المُوازنة، مِن قِبَل الذين يُحقِّقون أرباحَهُم على أساس سِعر الصَرف في السُوق ليُراكموا الثرَوات مع تَنزيلات ضَريبيَّة، في حين يعيش مُعظَم اللبنانيِّين في الفَقر والعَوَز؟ ألا تخفـي في طَيَّــاتِها مُحاولة البَعض، مِمَّن استفادوا على حِساب الناس، لقَونَنة نوعٍ مِن أنواع التَهَرُّب الضَريبي؟


إنَّ مَشروع قانون المُوازنة، كما هوَ مَطروح على مجلِس النُوَّاب وقَبلَ إنجاز الإصلاحات المَطلوبة لا سيَّما خُطَّة التَعافي الاقتِصادي والمالي، يُبَـيِّن استِمراريَّة طَريقة التَفكير ‏النَقدي (الكـاش) لَدى الذين أشـرَفوا على إعدادِها وَوافقوا عليها، ويؤَكِّد الشُكوك أنَّهم بغالِبِيَّتِهِم يُخَطِّطون لتَحميل أصحاب الودائِع المَشروعة مُعظَم خِسارات القِطاع المالـي.


مِـنْ غَيـر ‏المَنطِقـي ومِنْ غَيـر الواقِعـي الفَصل بَيـن خُطَّة التَعافـي وتَـوَجُّهـات المُوازنة، ولا قيمة للمُوازنة مِن دون المُباشَرة فِعلاً لا قَولاً بالإصلاحات البُنيَوِيَّة التـي جَرى التَفاهُم حَولَها مَع صُندوق النَقد الدَولـي بمَوجَب الاتِّفاق Staff-Level Agreement) SLA) المُوَقَّع بـتـاريخ 7 نيسان 2022 والذي لَـــمْ يُنَفِّذ لبنان مِنه شَـيئـاً يَستَحِقُّ التَنويه. أذكُر هُنـا، علـى سَبيل المِثـال لا الحَصر، الكـابـيتـال كونتـرول، استِكمالَ إصلاح قانون السِرِّيَّة المَصرِفِيَّة، تَوزيعَ الخَسائِر بعَدالة وإنصاف على أساس مَنْ اسـتَفاد أكثَـر يَتَحَمَّل أكثَـر، اسـتراتيجِيَّةَ إعادة هَيكَـلَة المَصارِف، تَوحيدَ أسعار الصَرف، نتائِجَ تدقيق الفاريز أند مارسال، إصلاحَ النِظام الضَريبي ليُحاكـي الحَداثَة ولِيُصبِح أكثَرَ عَدالةً وكَفاءَةً وحَيَويَّـةً.


تفاقم الأزمة

فـي هذا الإطار، تَجدُر الإشارة إلى أنَّ مَسار تَصَـرُّفاتِهم لا يؤَشِّـر علـى أنَّهم يُريدون الإصلاحات وإطلاق البَرنامَج مَع صُندوق النَقد الدَولـي، بَــلْ إلـى استِمرارهم علـى مِـنوال خُطَّة الظِلّ في تَذويب وَدائِع الناس بالتوازي مع إرهاق مَحدودي الدَخل برُسوم مُشَتَّـتة يَـلحَظُها مشروع المُوازنة. لقَد قالوا إنَّهم ضِدَّ الهيركات ولكِنَّهُم مارَسوه بأبشَعِ وأخبَثِ صُوَرِه، واستَبدَلوا عَن سُوءِ نِـيَّـة مُصطَلَح "الودائِع المَشروعة" بتَعبير "الودائِع المُؤَهَّلة" الذي لَـيسَ له تَفسيرٌ عِلمـي ومَنطِقـي.


ماذا فَعَـلـوا لتَصحيح الوَضع؟ لا شَـيء، بَـلْ علـى العَكس، تَفاقَمَت الأزمـة وتضَخَّمت فَجوة الخَسائِر في مَصرِف لبنان لتَصِل وَفقَ تَقرير الفاريز أنـد مارسال إلـى 76 مليار دولار، مـا يوازي ضعف مـا كانَتْ عَلَيه فـي العام 2019. وقَد جاءَت التَـرجَمة العَمليَّة لـهَذه الخَسائِر استِعمالاً مِن دونِ وَجه حَـقّ ولا مُسَوِّغ قـانوني لِمُعظَم ودائِع الناس بالعُملات الأجنبيَّة وهـي حُقوق جَـرى الـتَصَــرُّف بِـهـا فـي "عملـيَّـات بـونـزي"، ما جَعل لبنان يُعـانـي مِن عَجز مـالـي خطير مُثَـلَّث الأضلُع، لَم يَسبِق له مَثيل فـي العالَم، يتَمَثَّـل بهذا التآكُـل فـي الادِّخارات الوطنيَّة، وبالعَجز فـي ميـزان المَدفوعات المُتأتّـي مِنَ العَجز فـي الميـزان التِجاري، وبالعَجز فـي المُوازنـة.


نشهد فـي لبنان، نِـفـاقـاً فـي الكَـلام وفـي المُمارَسة، وهُروباً إلـى الأمام، واعتِماد تكتيكـات تافِهة عِوَضَ النَظرَة الاستراتيجِيَّة المَسؤولة، فـي حين أنَّ دُوَلاً مِثل قُبرص واليونان وأيسلَندا استَعادَت عافيَتَها في خِلال سَنَواتٍ مَحدودة وصَحَّحَت أوضاعَها الماليَّـة. أمّـا سـريلانكـا، فقَد وقَّعَت في تشرين الأوَّل 2023 ومِن دون إبطاء، اتّفاقاً مع صُندوق النَقد الدَولـي أمَــلاً في استِعادة عافيَتها فـي غُضون أربَع سَنَوات.


ماذا لو؟

لِـذا، وَجُبَ التَذكير بـأن الأزمة التي انفجرَت بتاريخ 17 تشرين الأول 2019، لا تَزال تتَعمَّق بنتائِجها الكارِثِيَّة، مَـا يَحمِلُنـا علـى السُؤَال ألَـمْ يَكُن لبنان قد بَـدأ مُنذُ حين مَرحلة الخُروج من الأزمة لَو أُقِرَّت الورَقة الإصلاحيَّة التي طُرِحَت في لقـاء القيادات السِياسيَّة في بعبدا بتاريخ 2 أيلول 2019، وَلَو بوشِرَ بالإصلاحات التي أقَرَّها مجلِس الوزراء بتاريخ 30 نيسان 2020 مِن ضِمن خُطَّة إنقاذ متكامِلة وعلى أساس أن يُصبِح سِعر صَرف الدولار 4300 ليرة في أواخِر العام 2023؟ الأرجَح أن الوَضع كـان قد تحَسَّن كثيراً وباطِّراد، لَكِنَّ الأزمة تفاقَمَت وتناسَلَت أزمات نتيجة المُناكَفات السِياسيَّة وقصر النَظَر ومصالِح الأوليغارشيَّات العابِرة للطوائف والأحزاب، كُـلُّها، بالاتِّحاد والانفِراد، حالَت دونَ الإصلاح وما زالت تُعيقُه.


للأسَف، يَعيشُ لبنان انهياراً في سُلَّم القِيَم، وفوضى في الاقتِصاد والمال والنَقد والتَشـريع والقَضاء، وأزيدُ فأقول خَواءً فِكريَّاً وعُقماً سِياسيَّاً، ما جَعلَه دَولة رَخوة Soft state وَفـقَ تَعريف عالِم الاقتِصاد السُوَيدي "غونار ميردال" فـي كِتابه "الدراما الآسيَويَّة - بَحثٌ فـي فَـقـرِ الأُمَـم" الذي نُشِـر عام 1968. وهذه المُوازنة هـيَ مُحاوَلة لإعادةِ إحيـاءِ نِظامٍ مَبنـيٍّ علـى الـرَيع والنِفاق والرَتابة المُمِلَّة وعدم الجدّية.


*مداخلة ألقيت الخميس 14 كانون الأول في اجتماع اللجنة الاقتصادية - الاجتماعية في بكركي.

MISS 3