عبده جميل غصوب

مدى جواز اعتبار استحضار الدعوى يحل محل الانذار في دعاوى الغاء العقود

6 كانون الثاني 2024

19 : 51

تنص المادة 239 موجبات وعقود ان الغاء العقد يحدث اما بسبب شرط الغاء مدرج فيه واما بمقتضى مشيئة مظنونة présumée عند المتعاقدين. وتنص المادة 241 منه في فقرتها الاولى، انه يقدر وجود شرط الالغاء في جميع العقود المتبادلة اذا لم يقم احد المتعاقدين بايفاء ما يجب عليه ولم يكن في وسعه ان يحتج باستحالة التنفيذ، ما لم يكن ثمة استثناء منصوص عنه في القانون.

كما تنص المادة ذاتها في فقرتها الثانية انه في الاساس لا يكون هذا الالغاء الا بحكم من القاضي. وفي فقرتها الثالثة، انه يحق للمتعاقدين ان يتفقوا فيما بينهم على ان العقد عند عدم التنفيذ، يلغى حتما بدون واسطة القضاء. وهذا الشرط لا يغني عن انذار يقصد به اثبات عدم التنفيذ على وجه رسمي. ويمكن ايضا الاتفاق على عدم وجوب تلك المعاملة، وحينئذ يتحتم ان يكون البند الذي يعفي من التدخل القضائي ومن الانذار مصوغا بعبارة جازمة صريحة.


لن نتطرق في دراستنا الحاضرة سوى الى نقطتين هما: مدى توجب الانذار (اولا ) وصيغته القانونية اللازمة (ثانيا).


اولا: في مدى توجب الانذار :

لا يثير توجب الانذار اي اشكال على مستوى نص المادة 241، فقرتها الاخيرة، اي في حالة الالغاء الحكمي، في الحالة التي لا يكون فيها ثمة عبارة " جازمة وصريحة " تعفي من الانذار، اذ يجب في هذه الحالة، توجيه الانذار لاثبات " عدم التنفيذ على وجه رسمي ".


فيما بالمقابل واستنادا الى الفقرة ذاتها، لا يتوجب ارسال الانذار بوجود بند مصوغ " بعبارة جازمة وصريحة تعفي منه ".


ولكن ماذا في حالة المادتين 239 و241 فقرة أولى موجبات وعقود حيث يقدر وجود شرط الالغاء في جميع العقود المتبادلة اذا لم يقم احد المتعاقدين بايفاء ما يجب عليه ولم يكن بوسعه ان يحتج باستحالة التنفيذ، ما لم يكن ثمة استثناء منصوص عنه في القانون ؟ فهل يكون شرط الانذار قائما، كما هي الحالة في الالغاء الحكمي بغياب نص صريح يعفي من الانذار ؟


للاجابة على هذه المسألة يجب العودة الى اصل المؤسسة القانونية المعروضة، كما تقتضيه اصول المنهجية السليمة في معالجة النقاط القانونية الشائكة. فدعوى الالغاء هي في الاصل دعوى مسؤولية عقدية، ما يحتم العودة الى القواعد التي تحكم المسؤولية العقدية، توسلا لاي اجابة صحيحة على المسألة المطروحة اعلاه.

« Mise en demeure - Le créancier peut – il demander la resolution avant d’avoir mis le débiteur en demeure d’exécution son obligation ? L’ action en résolution étant une action en responsabilité contractuelle , il suffit de renvoyer aux règles qui ont été tracées en étudiant cette action ».1


بالعودة الى القوعد التي تحكم المسؤولية العقدية، نقرأ ما يلي:

« - Mise en demeure. – Au principe d’après lequel le droit à réparation prend ainsi naissance à l’instant de la réalisation du dommage, les dommages et intérêts ne sont dus que lorsque le débiteur est en demeure de remplir son obligation.

La mise en demeure (le mot « demeure » vient du latin mora, qui signifie retard ) est une injonction , qui est adressée par le créancier au débiteur, d’avoir à exécuter l’obligation, et qui constate officiellement le retard qu’apporte le débiteur à cette exécution. Lorsqu’elle est nécessaire , le débiteur est en droit de l’attendre pour exécuter son obligation ; tant qu’il n’est pas mis en demeure, il n’est pas en retard ».2


يُفهم من ذلك، انه لا يمكن ـ باي حال من الاحوال ـ اعتبار المدين متاخرا عن تنفيذ التزاماته، ما لم يكن قد تمّ انذاره. فيكون الانذار لازما في كل الاحوال ما عدا الحالة التي يعفى فيها الدائن من ارساله بشرط ان يحصل الاعفاء منه مصوغا " بعبارة صريحة وجازمة " وفقا لصريح نص المادة 214 فقرة أخيرة موجبات وعقود.


اضف الى ذلك صراحة نص المادة 257 موجبات وعقود التي تنص ان تأخر المدين ينتج في الاساس عن انذار يرسله اليه الدائن وهو واجب بقطع النظر عن اي شيء آخر.


ولا يرد على ذلك بان الفقرة الاولى من المادة 241 موجبات وعقود لا تنص عن الانذار، للسببين التاليين:

السبب الاول: لان دعوى الالغاء هي جزء من دعوى المسؤولية العقدية وتخضع لما تخضع له هذه الاخيرة من شروط، كما سبق بيانه اعلاه.


السبب الثاني: لان الفقرة الاخيرة من المادة 241 تتكلم على الاعفاء من الانذار، ما يستنتج عن طريق الاستدلال بان الانذار واجب مبدئيا في الحالتين، لانه ليصح " الاعفاء " من الانذار يجب ان يكون الانذار لازما، اذ لا يصح منطقيا الاعفاء من امر غير قائم اصلا !


ثانيا: في الصيغة القانونية للانذار:

يطرح النص العربي (غير الاصلي) لقانون الموجبات والعقود عدة تساؤلات حول هذه المسألة ؛ ولكن سرعان ما تتبدد عند العودة الى النص الاصلي الفرنسي.


فالمادة 257 موجبات وعقود تنص في اصلها الفرنسي على ما حرفيته:

« La demeure du débiteur, en dehors de laquelle il ne saurait être passible de dommages – intérêts , résulte, en principe, d’une interpellation qui lui est adressée par le créancier , sous une forme quelconque , mais nécessairement par écrit (lettre recommandée, télégramme, sommation, citation en justice , même devant un juge incompétant).

Cette interpellation est requise , sans qu’il y ait lieu de distinguer d’après la nature ou l’origine de l’obligation ni d’après celle des dommages – intérêts».


فيما هي في نصها العربي على الشكل التالي:

" ان تأخر المديون الذي بدونه لا يستهدف لاجراء بدل العطل والضرر، ينتج في الاساس من انذار يرسله اليه الدائن بطريقة ما، وانما يجب ان يكون خطيّا (ككتاب مضمون او برقية او اخطار او اقامة الدعوى عليه امام المحكمة وان لم تكن ذات صلاحية).


وان هذا الانذار لواجب مع قطع النظر عن ماهية الموجب وعن اصله او اصل بدل الضرر ".


بالمقارنة بين النص الاصلي الفرنسي و النص العربي، يتبيّن لنا بأن تعريب كلمة

" interpellation " ليس صحيحا اذ تعني " المطالبة " وليس " الانذار " كما ورد في النص العربي.

ثم عمد النص العربي الى تعريب " Sommation " بانه " إخطار " وذلك تفاديا من الوقوع في ازدواجية التعبير، خصوصا وان كلمتي " إخطار " و " انذار" مرادفتان لكلمة واحدة ومضمون واحد؛ فاحيانا نستعمل بالعربية كلمة " انذار " واحيانا اخرى تستعمل كلمة " إخطار " للتعبير عن دلالة واحدة، فلا ينفع هنا " الاجتهاد " اللفظي الذي ليس في مكانه الصحيح ؛ اذ كان على المشترع – الذي نجح في تعريب كلمة " La demeure " الى " التأخر " ان يكون اكثر دقة في تعريب كلمة " interpellation " الى " مطالبة " وليس الى " انذار "، وان يعرّب كلمة " Sommation " بانها " انذار " بدلا من " إخطار "، لانه ليس محبذا من الوجهة المنهجية استعمال كلمتين مختلفتين للدلالة على مضمون واحد؛ فهذا ما يؤدي كثيرا الى الوقوع في الالتباس.


هذا ما ستظهر اهميته لاحقا عند تناول الصيغة الشكلية للانذار الواجب ارساله للمدين، في حالتي الالغاء العادي او الالغاء الحكمي غير المقترن بعبارة الاعفاء من الانذار.


ولكن قبل الانتقال الى ذلك، يهمنا ابداء الملاحظتين التاليتين :

الملاحظة الاولى:

ان اشكال المطالبة الواردة في المادة 257 موجبات وعقود هي على سبيل التعداد وليس الحصر à titre énonciatif et non limitatif حسبما يستدل من عبارات النص الحاسمة، اذ ورد في متن المادة المذكورة: " ... عن انذار يرسله اليه الدائن بطريقة ما ". وثم عنما عدد طرق ارسال الانذار، استعمل " كاف التشبيه " في كلمة " ككتاب "، ما يؤكد تكرارا بان التعداد هو على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر.


الملاحظة الثانية:

اذا كانت المادة 257 لا تشترط شكلا معينا للانذار، فانها تلزم " ان يكون خطيا " ما يستبعد جواز ارسال انذار بواسطة الانترنيت، كارساله عبر البريد الالكتروني e – mail لان في ذلك مخالفة للنص الحالي غير المعدل. وهذه مناسبة نطرح من خلالها الدعوة الى تطوير نصوصنا التشريعية لتصبح مؤهلة لاستيعاب التقنيات الرقمية الحديثة، خصوصا ان البريد الالكتروني اصبح الآن الاكثر استعمالا.

ولكن – وعلى مستوى آخر – يرتدي شكل الانذار اهمية اكبر في حالة توجب الانذار عند المطالبة بالغاء العقود المتبادلة لعدم تنفيذ احد طرفيها موجباته، من جهة. وفي حالة الالغاء الحكمي، اي بدون مراجعة القضاء، غير المقترن ببند صريح جازم يعفي من الانذار.


أ ـ في حالة الالغاء لعدم التنفيذ في العقود المتبادلة:

هذه الحالة لا تثر اي مشكلة، اذ يمكن ان يرتدي الانذار، اي شكل منصوص عنه في المادة 257 ام غير منصوص عنه. ولكن المهم ان يكون خطيا.


وان ما يهمنا هنا ـ في هذا السياق من الافكار ـ انه يمكن لاستحضار الدعوى ان يحل محل الانذار ولو كان مرفوعا امام محكمة غير مختصة.


ولكن هذا لا يصح في الحالة الثانية وهي حالة الالغاء الحكمي بدون واسطة القضاء، ولكن بدون الاعفاء، بشكل جازم وصريح من الانذار، اذ يبقى الانذار متوجبا هنا. ولكن لا يحل محله رفع استحضار الدعوى امام مرجع مختص او غير مختص، كما سنرى.


ب ـ في حالة الالغاء الحكمي بدون تدخل القضاء ولكن بدون الاعفاء من الانذار بعبارة صريحة وجازمة بحيث يبقى الانذار متوجبا:

قد يتساءل البعض هنا عن الحاجة الى مراجعة القضاء بوجود بند صريح في العقد ينص عن الغاء العقد حكما عند عدم التنفيذ، بدون الحاجة الى مراجعة القضاء.


يأتي الجواب حاسما هنا اذ ان تدخل القضاء هو لاعلان الالغاء وليس لانشائه، فالحكم الصادر عن القضاء هنا هو حكم تقريري وليس انشائي. وهو لازم وضروري لاعلان الالغاء اذ ان بنود العقد لا تكفي بذاتها لبلوغ الالغاء.


فما هو الفرق بين الاحكام التقريرية ـ التي تشكل الاحكام القاضية بالالغاء رغم الاعفاء من مراجعة القضاء احدى امثلتها ـ والاحكام المنشئة ؟


1 – الاحكام التقريرية:

هذه الاحكام تقرر حقوقا او مراكز قانونية، كانت موجودة قبل اصدار الحكم، منها:

- الحكم بصحة او بطلان العقد.

- الحكم ببراءة الذمة.

- الحكم بصحة التوقيع.

- الحكم باستحقاق شخص لعقار معيّن.

- الحكم بالاعتراف بالجنسية الخ.


2 – الاحكام المنشئة:

هي الاحكام التي تقضي بانشاء حقوق او مراكز او تعديلها، وهي لم تكن موجودة قبل الحكم بها. من امثلة هذه الاحكام:

- الحكم بالغاء او فسخ عقد (كما ذكرنا اعلاه).

- الحكم بالتطليق.

- الحكم بالشفعة.

- الحكم بوضع شركة تحت التصفية القضائية الخ.


بالعودة الى الاحكام الصادرة في الالغاء عند عدم الاعفاء بعبارة صريحة وجازمة من الانذار.


في هذه الحالة يبقى الانذار لازما. ولكن المسألة المطروحة: هل يصح احلال استحضار الدعوى (ولو رفعت امام مرجع غير مختص) محل الانذار واعتباره بمثابة انذار، كما نصّت عنه المادة 257 موجبات وعقود ؟


نجيب قطعا بالنفي، لان حكم الالغاء هنا ليس حكما منشئا بل حكما تقريريا Jugement déclaratif.


وبالتالي، فهو لا ينشىء الالغاء الحكمي (بدون واسطة القضاء) بل يعلنه. ولا يمكن ان يحل استحضار الدعوى هنا محل الانذار، لان الالغاء يجب ان يكون محققا ومكتملا قبل رفع الدعوى. وهذا يستوجب مطالبة خطية، حسبما تنص عنه المادة 257 موجبات وعقود، باي شكل كان، ما عدا استحضار الدعوى، لان الاستحضار في هذه الحالة لا يستجمع عناصره القانونية الصحيحة، ما لم يكن الالغاء متحققا. وهذا لا يحصل الا بمطالبة خطية، غالبا ما تتمثل بانذار خطي. فاستحضار الدعوى هنا يهدف الى الاستحصال على حكم تقريري وليس انشائيا، ما يستوجب ان تكون الحالة القانونية او المركز القانوني موجودا قبل رفع الدعوى؛ فالالغاء الحكمي لا يتحقق قبل ارسال انذار يثبت رسميا عدم التنفيذ، وذلك قبل رفع الدعوى التقريرية بموجب استحضار؛ فلا يكون الاستحضار صالحا هنا للحلول محل الانذار.


هذه النقطة دقيقة، وينبغي الانتباه اليها، لا ان نسرد قرارات واحكام قضائية تارة تأخذ بصحة حلول الاستحضار مكان الانذار وتارة تحكم بغير ذلك، بدون ان تعلل هذه الاحكام والقرارات في غالب الاحيان.


ان دراسة النظام القانوني لمؤسسة قانونية institution juridique هامة وشائعة كمؤسسة الالغاء (خصوصا الالغاء الحكمي)، هي خطوة مسبقة وضرورية للخلوص الى نتائج قانونية مرتكزة على قواعد صحيحة، والا ضاع القانون في متاهات عدم المعرفة القانونية، وعندها يتحول القانون الى " وجهة نظر " كفيلة بالاطاحة به وبرجال القانون الحقيقيين.


الهم نجنا من مدعي المعرفة القانونية انهم اخطر ما يكون على القانون واهله.



1- Mazeaud, Leçons de Droit civil, Tome deuxième , obligations, Théorie générale, éd. Monchrestien, 1956, n 1100, p. 893.

2- Mazeaud, op. cit., n º 620, p. 567.

MISS 3