نجم الهاشم

حوار في القصر المعزول

25 حزيران 2020

02 : 00

لقاء تحصين الوحدة حاصل ( دالاتي ونهرا)
يوم الخميس 2 تشرين الثاني 1989 الساعة العاشرة صباحاً قام البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير بزيارة قصر بعبدا للقاء رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون. رافقه في الزيارة نائباه المطرانان رولان أبو جودة وبشارة الراعي في سيارة واحدة هي سيارة البطريركية وقد تقدمهم درّاج وجيب ليشق الطريق التي كانت مزدحمة بالسيارات.

لاحظ صفير أن القصر ازداد خراباً وقد استقبله عون على الباب الداخلي بعدما أدت له التحية ثلة من الحرس الجمهوري.

لم تكن تلك زيارة البطريرك الأولى للعماد. سبق أن زاره أكثر من مرّة ولكن هذه المرة كانت محاولة أخيرة من صفير لإقناع عون بالسير باتفاق الطائف الذي يحظى بتغطية دولية وعربية.

بعد إلتقاط الصور، قال صفير لعون: "نهنّئكم لأنّكم خرجتم من الملجأ وجئتم الى الطابق الأرضي. جئنا لأنّ الظرف يقتضي أن نلتقي على ما قلنا لدولتكم في أثناء المكالمة الهاتفية التي أجريتموها معنا إثر عودتنا من روما (في 26 تشرين الأول 1989 بعد إنجاز اتفاق الطائف). ونلتقي لنرى أين وصلنا. إنَّا نخشى إنقسام الصفّ المسيحي، وهذا ما نبّهنا إليه يوم كنّا في روما عندما جرت بيننا مكالمة هاتفية". في هذا اللقاء جاء عون بنصّ وثيقة الطائف وأخذ يبالغ في إظهار سلبياتها، كما لاحظ صفير، وقد اعتبر عون أن مسألة السيادة ناقصة وقد يؤدي ذلك إلى دخول الجيش السوري إلى بعبدا وبكركي.

انتهت اللعبة

لم يفلح صفير في إقناع عون وفشل حيث فشل غيره. كان لبنان يقف على مفترق مصيري وكان العماد عون رافضاً للحل وبعد تحديد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في مطار القليعات في 5 تشرين الثاني من ذلك العام أصدر فجر الرابع منه ما سمّاه مرسوم حلّ مجلس النواب معتبراً أنّه وحده يمثّل الشرعيّة ويجب التفاوض معه.

بعد ساعات قليلة كان صفير يستقبل السفير البابوي في لبنان بابلو بوانتي بعد عودته من لقاء عون في بعبدا وقد نقل إليه بحضور المطرانين رولان أبو جوده وبشارة الراعي، كما دوّن صفير في مذكراته، أنه "أبلغ عون أن الفاتيكان ضد حلّ المجلس النيابي وضد تقسيم لبنان، وأن ساعة الحقيقة قد دقّت وأن إختيار الشرّ الأهون هو الأسلم، وأنه مع انتخاب رئيس للجمهورية ومع مؤسسات دستورية. هذا رأي الكنيسة ولا مجال للحياد في هذا المجال". طلب السفير من عون أن يعمل شيئاً ليعود عن قراره إذا كان بالإمكان، واعتبر أن حلّه للمجلس غير قانوني. ولكن عون كان في وادٍ آخر وفي عالم آخر هو عالمه الخاص المنفصل كليّاً عن الواقع.

من سخريات القدر أو ما توقعه عون صحّ في جزء منه. دخل الجيش السوري في 13 تشرين الأول 1990 إلى القصر الجمهوري بسبب رفضه الطائف ومندرجاته بينما تحوّل البطريرك صفير في بكركي إلى رمز الصمود في مواجهة عهد الوصاية.


من طاولات حوار العهد



مؤتمرات الفشل

الدعوة التي وجّهها الرئيس ميشال عون لعقد اللقاء الوطني في قصر بعبدا اليوم الخميس أعادت طرح مسألة الطائف والصلاحيات ولكنّها أظهرت مدى خطورة الإنقسام الداخلي والتدهور الحاصل في كل المجالات الأمنية والإقتصادية والمالية والدستورية والقضائية. كأنّ الجمهورية التي قال عون إنه يريد استعادتها قبل الرئاسة باتت مهدّدة في وجودها ودورها.

مؤتمر بعبدا اليوم لا يبتعد عن سلسلة مؤتمرات فاشلة مجرّد انعقادها كان ينذر بحصول ما كان يجب أن تقوم بمعالجته: منع الإنهيار والإنزلاق نحو الفتنة والمجهول.

كان الطائف محاولة للخروج من الحرب ووقف عون ضدّه. وعندما وصل إلى بعبدا بموجب مفاعيل هذا الإتفاق وتطبيقاته أضاع فرصة الإنقاذ وكأنه يعود بالبلد إلى ما كان عليه قبل الطائف مع الفارق الكبير في الإنقسامات الداخلية وخطوط التماس الجديدة. من المفارقات أن عون و"حزب الله" كانا كلّ من موقعه رافضين لذلك الإتفاق، وهما اليوم متفقان على تجاوز مسألة احترام الدستور والمؤسسات ودور الدولة ومفهوم السيادة ومعنى أن يكون الجيش وحده متولّياً السلطة الأمنية في البلاد وضرورة أن يكون لبنان في لبنان وسوريا في سوريا وإسقاط مقولة الشعب الواحد في دولتين ووحدة المسار والمصير.

من لجان الحوار في ميدان سباق الخيل إلى مؤتمري جنيف 1983 ولوزان 1984 إلى جولات التفاوض قبل الإتفاق الثلاثي كانت محاولات فاشلة للتوصّل إلى تفاهمات للخروج من الحرب. الطائف كان وحده المحاولة الأكيدة التي ضيّعها عون ولا يبدو أنه قادر أو راغب في الحفاظ عليها اليوم وحمايتها. بدل أن تكون رئاسته للجمهورية طريقاً نحو تطبيق صحيح للطائف بعد أن انقلب عليه النظام السوري يبدو أنه يسلك الطريق المعاكس. وبدل أن يكون عهده بداية الخروج من الإنهيار يبدو أنه يسير في الهاوية.

في العام 2006 بعد حرب تمّوز وبعد إطلاق "حزب الله" اتهامات الخيانة والتآمر ضد قوى 14 آذار التقط رئيس مجلس النواب نبيه بري المبادرة ودعا إلى جلسات حوار وطني لم تصل إلى نتيجة. ولم يحل ذلك دون حصول غزوة 7 أيار 2008 التي أخذت لبنان إلى تسوية الدوحة. وبعدها، أيام الرئيس ميشال سليمان، كانت عودة إلى حوارات جديدة انتهت إلى "إعلان بعبدا" الذي أكد حياد لبنان وسياسة النأي بالنفس ولكن هذا الإعلان بقي حبراً على ورق.

زوار السفارة

اليوم هل يمكن أن ينقذ مؤتمر عون في بعبدا البلد؟ من حيث الشكل والمضمون لا يختلف هذا المؤتمر من حيث الحضور إلا قليلًا عن المشهد الذي رآه اللبنانيون في السفارة السورية في اليرزة للتضامن مع النظام السوري ضد قانون قيصر ومفاعيله التطبيقية. وهذا المشهد يشبه في حيثيّاته أيضاً مشهد 8 آذار 2005 في ساحة رياض الصلح رفضاً للإنسحاب السوري من لبنان. في 14 آذار 2005 كان العماد عون في ساحة الشهداء جزءاً من المشهد. بين تبنّي عون خيار القرار 1559 في أيلول 2004 وبين العمل على رفض "قانون قيصر" فارق كبير وانقلاب في المواقع والمقاييس وليس في الزمن وحده. كان يقتضي وصول عون إلى قصر بعبدا أن يتمّ الخروج من الملجأ إلى ما فوق الأرض. وكانت المسألة تقتضي ايضاً أن يأخذ عون الجمهورية إلى حيث أراد لها أن تكون القرار 1559 ثم القرار 1701 من حيث استعادة السيادة الكاملة للدولة بكلّ أبعادها وكان من المفترض أن تكون هذه التسوية الرئاسية تصحيحية لتسوية الدوحة. ولكنّ ما فعله العهد خلال الأعوام الأربعة من ولايته صبّ في الإتجاه المعاكس لعملية بناء الدولة. لقد باع أوراقه. لا يمكن أن يكون الرئيس قوياً في دولة تحتضر. ولا يمكن أن يكون "حزب الله" قوياً في وطن يموت. عون مع "حزب الله" يحمّلان لبنان أكثر مما يستطيع أن يحمله. هذا الأمر يمكن أن يعرّضه إلى الإنفجار تماماً كما حصل في العام 1975 مع منظمة التحرير الفلسطينية. وهذه مسؤوليّة تاريخيّة عليهما معاً. لا يمكن أن يُقدَّم لبنان ضحية على مذبح مصلحة النظامين في سوريا وإيران ومعهما "حزب الله".

لقد صوّر البطريرك صفير قصر بعبدا في تشرين 1989 معزولًا عن العالم مصاباً بالقذائف. ونقل كلام السفير البابوي إلى عون وفيه أن اللعبة انتهت وأن ساعة التغيير قد دقّت. اليوم يعيش القصر في عزلة. لم يعد قصر الشعب. ولا بيت الشعب. صار بيتاً للعيلة أو لجزء من العيلة. في محيطه تنتشر القوى الأمنية وتعلو الحواجز الإسمنتية. لا يمكن أن يتمّ فتح القصر لمؤتمر من هذا الطراز لا يحضره إلا من يشكلون السلطة التي يجب أن تتحمل مسؤولية الإنهيار إذا ما كانت عاجزة، كما يبدو ويتأكّد، عن الإنقاذ. لأن الإستقرار هو قرار أولاً وأخيراً ولا وجود لمثل هذا القرار في بعبدا. فهل انتهت اللعبة ودقت ساعة التغيير؟