جاد حداد

كتاب

The Posthumous Memoirs of Bras Cubas... من أذكى الكتب على الإطلاق!

27 حزيران 2020

02 : 00

الذكاء يتجاوز الزمان والمكان، فلا يصبح بالياً ولا يشيخ مع مرور الوقت عند استعماله بالشكل المناسب. يُعتبر كتاب The Posthumous Memoirs of Brás Cubas (مذكرات براس كوباس بعد وفاته) للكاتب يواكيم ماريا ماتشادو دي أسيس خير مثال على ذلك. نسي الكثيرون هذا الكتاب منذ وقتٍ طويل لكنه من أذكى الكتب على الإطلاق وأكثرها متعة، لذا يدخل في خانة المؤلفات الخالدة. إنها قصة حب (بل قصص حب متعددة)، وكوميديا عن الطبقية والأخلاق والغرور، وانعكاس لزمان ومكان محددَين، ونظرة عميقة على الحياة الفانية، حتى أن الكتاب يستكشف بأسلوب دقيق وممتع مفهوم السرد القصصي بحد ذاته. لكن رغم قيمة هذه التحفة الفنية اللامعة، لم يقرأها معظم الناطقين باللغة الإنكليزية في القرن الواحد والعشرين لأسباب غير واضحة.

مع ذلك، صمدت هذه الرواية ويجب أن يقرأها أكبر عدد من الناس نظراً إلى الموسيقى في نثرها وطابعها المرح. بطل القصة "براس كوباس" ميت. هو يروي قصة حياته من القبر. وبما أنه لم يعد يملك ما يخسره بعد موته، لا شيء يمنعه من سرد القصة بالطريقة التي تحلو له، ضارباً بالتقاليد عرض الحائط. تتخذ الرواية شكل فصول قصيرة وممتعة، وتزيد قيمتها بفضل المراجع اللامتناهية والنزعة إلى التشكيك بالذات.

القصة في جوهرها شبه تقليدية وتتمحور حول مثلث حب أرستقراطي من القرن التاسع عشر. يتنقل "براس كوباس" بين الطبقات الثرية في ريو دي جانيرو، لكنه لا يبدي استعداده للزواج (شقيقته مهووسة بهذا الموضوع) ولا يطمح إلى الارتقاء داخل الحكومة (إنها أمنية والده). هو يفوّت فرصة الزواج من الجميلة "فيرجيليا" والتحول إلى شخصية عامة بفضل والدها النافذ. لهذا السبب، يطلب رجل نبيل اسمه "لوبو نيفيس" يد "فيرجيليا" ويستفيد من تعليمات والدها، لكن يشعر "براس كوباس" بالانجذاب إلى "فيرجيليا" في هذه المرحلة بالذات. فتنشأ علاقة بينهما ويحاولان إخفاءها عن زوجها الذي يثق بها لأقصى حد. بعد وقتٍ قصير، ينتشر خبر علاقتهما في مجتمع ريو دي جانيرو ويتقرب العاشقان من بعضهما بدرجة إضافية مع زيادة احتمال انكشاف أمرهما.

في غضون ذلك، يفكر "براس كوباس" بمعنى الحياة (من القبر)، بمساعدة صديقه "كوينكاس بوربا" الذي يحاول الترويج لفلسفة "الإنسانية" التي تهدف، بكلمات ماتشادو، إلى "إفساد جميع الفلسفات الأخرى". ترتكز هذه الفلسفة في جوهرها على الإيمان بصوابية كل ما هو بشري. يعترف "براس كوباس" بأن هذه الرؤية تفاؤلية أكثر من اللزوم، لكنه يجد درجة من الراحة والمواساة في المفهوم الجذري القائل إن البشر يجب أن يتمكنوا من القيام بكل ما يفعله الناس طبيعياً، حتى أن جميع أفعالنا حتمية، مع تقدير خاص لعملية إنجاب المزيد من البشر: "الحب مثلاً مقدس والتزاوج طقس شعائري. وبما أن الحياة هي أكبر نعمة يهبها لنا الكون... فلا شك في أن استمرارية الحياة، بعيداً عن المتعة التي ترافقها، هي أعظم فترة من الاحتفال الروحي. لهذا السبب، تتعلق المأساة الحقيقية في الحياة بألا يولد الإنسان مطلقاً".





يتنقل ماتشادو بين قصة الحب وفصولها الماورائية بكل سلاسة: ربما يتناول الكتاب مواضيع جدّية، على غرار الحب والحياة بحد ذاتها وحتمية الموت، لكنه لا يأخذها على محمل الجد. في الفصل الرابع بعنوان The Fixed Idea (الفكرة الثابتة)، يطلق ماتشادو مقارنة كبرى بين الجهود البشرية المحدودة وتلك التي يتردد صداها على مر العصور: "ستكون أي مقارنة ضعيفة أشبه بحشد صاخب، فتختبئ في ظل قلعة إقطاعية؛ ثم تنهار القلعة ويبقى الصخب قائماً. تزداد عظمتها تلقائياً وسرعان ما تصبح حصناً حقيقياً... لا، هذه المقارنة غير نافعة". جميع العناوين المتلاحقة محيّرة ومثيرة للاهتمام. يحمل أحد الفصول عنوان Sad, but Short (حزين لكن قصير)، يليه فصل Short, but Happy (قصير لكن سعيد) وهو يتمتع بهاتين الصفتَين معاً. يُخصّص الكاتب فصلاً آخر للجزمات، وآخر لساقَيه، ويحمل أحد الفصول عنوان Not to Be Taken Seriously (غير جدّي)، ويشمل أحد المشاهد هلوسة طويلة مع فرس النهر!

لا تُضعِف النكات والأفكار الممتعة بين الحوارات قوة القصة. تبدو العلاقة الرومانسية بين "براس كوباس" و"فيرجيليا" مقنعة وشاعرية جداً. وحتى المشاعر التي نُكوّنها تجاه "لوبو نيفيس" الذي يغفل عن الوقائع حقيقية، ولا أحد يُعاقَب على الجريمة التي يرتكبها الراوي و"فيرجيليا" بحقه، لا في الحياة ولا بعد الموت. هذا العامل محوري في القصة لأن الكتاب يحمل فكراً ملحداً، ما يعني عدم وجود أي ديّان إلا الضمير الشخصي. في هذا العالم أيضاً، يتمدد مرتكب الخطايا وحده في صندوق تخترقه الديدان ويراجع مسار حياته وإخفاقاته من دون مواجهة أي عقاب إلهي. على صعيد آخر، تحمل القصة طابعاً مضحكاً، فهي مميزة ولا تشبه المؤلفات التي سبقتها، بل إن الكتب التي تلتها هي التي استوحت منها عناصر كثيرة، عمداً أو عن غير قصد.

يميل القراء على مر العصور إلى نسيان التفاصيل. لهذا السبب، نصدّق كل بضعة عقود أن كاتباً معيناً يطرح أسلوباً جديداً ويُفترض أن نعتبره سابقاً لعصره، ثم نحصره في إطار واحد في جميع المراحل اللاحقة لمجرّد أنه خاطب القراء مباشرةً، أو تلاعب بأساليب الكتابة أو استعمل كتّاباً آخرين أو مؤلفات أخرى داخل كتابه كمراجع له. لكن على أرض الواقع، يرتكز عدد هائل من الأعمال الكلاسيكية في العالم على أسلوب واحد أو عدد من الأساليب الاعتيادية التي تُعتبر مميزة في حقبة معيّنة. بدأت هذه الظاهرة مع ميغيل دي سرفانتس الذي سمح لشخصيتَي "دون كيشوت" و"سانشو بانزا" في المجلّد الثاني من كتابه بأن يدركا أنهما كانا شخصيتَين في المجلد الأول. كذلك، يرتكز كتاب Candide (الصريح) الذي يستعمله ماتشادو كمرجع له في مناسبات متعددة، على مفهوم الوعي الذاتي، ويطرح الكاتب وليام ماكيبيس ثاكراي عبر كتابه Vanity Fair (سوق الأضاليل) دلالات كثيرة على حضور الكاتب في قصته وصلاحياته ومعرفته بجميع التفاصيل. يستعمل ماتشادو عدداً كبيراً من المراجع، على غرار جويس وأوستن ونابوكوف وستيرن وستاين وبيسوا وأسماء أخرى اختبرت مختلف أساليب الرواية. تطرّق هؤلاء الكتّاب إلى سلطتهم وشككوا بها وتكلموا عن استعدادهم لخوض التجارب والاستمتاع بالعلاقة القائمة بين الكاتب والقارئ والكتاب بحد ذاته. هكذا حافظوا على نوع متجدد ومفاجئ من المؤلفات وأصبحت كتبهم خالدة.

لكن تغيّر الوضع في هذا العصر. يشهد عالم الأدب اليوم حالة غريبة جداً، وكأنه يعيش في زمن تقليدي بامتياز ويصعب أن نفسّر السبب. خلال مسابقة لاختيار أفضل رواية منذ بضع سنوات، أمضى أعضاء اللجنة المكلّفة بهذه المهمة وقتاً ممتعاً على نحو غير متوقع. كانت الكتب اللامعة والمرشّحة للجائزة كثيرة. لكن من بين 400 رواية أميركية طُلِب منا قراءتها في تلك السنة، تراجعت أعداد المؤلفات التي يمكن اعتبارها مضحكة أو مرحة، وارتكز كتابان منها فقط على تجارب قيّمة. إنه مؤشر واضح على انتشار خوف عام من التجدد وتردد فائق في أخذ المجازفات، ونزعة صادمة وشائبة إلى الحفاظ على طابع جدّي في الروايات الجديدة. لا يعني ذلك أن جميع الروايات، أو معظمها، يجب أن تكون مرحة ومضحكة بقدرThe Posthumous Memoirs of Brás Cubas، لكن لا ضير من إصدار عدد إضافي من الكتب التي تسمح للبشر (الشخصيات والقراء والكتّاب) بالضحك في مشاهد معيّنة. من المؤسف أن نحرم أنفسنا من المزاح في الحياة وألا ندرك أن الحياة بحد ذاتها مزحة!