مصطفى علوش

عن محاكمة إسرائيل

15 كانون الثاني 2024

02 : 00

«إن أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يتخذون موقف الحياد في القضايا الأخلاقية» (دانتي).

قد يحصل وقف لإ طلاق نار جديد، وسيدخل عدد آخر من الوفيات في أرشيف النسيان. فتكون مناسبة أخرى لإراحة ضمير المجتمع الدولي، لكنها ستكون فترة أخرى من الإذلال اليومي لمن يجبرون على عبور نقاط التفتيش الإسرائيلية من أجل الذهاب إلى العمل... إلى أن تأتي عملية أخرى من جانب الفلسطينيين وتؤخذ ذريعة لموجة أخرى من التطهير العرقي.

لا شيء سيساعد في تخفيف المحن التي مرّ الفلسطينيون بها منذ إنشاء إسرائيل، ولا شيء يساعد اليهود العالقين في المشروع الصهيوني الاستعماري الذي تنفذه إسرائيل، نظراً للدعاية المسمومة التي سيطرت على عقول أكثريتهم الساحقة. لذلك، فإن الكتابة هي شكل من أشكال توجيه الغضب، بصرخة مكتوبة من اليأس والعجز.

يزعم الغرب أنّ موقفه مبرر بالحاجة إلى الدفاع عن الديمقراطية، مع علمه بأن إسرائيل ليست إلا نظاماً للفصل العنصري. الفلسطينيون الذين يعيشون في إسرائيل هم حوالى 21 في المائة من السكان، لكنهم مواطنون من الدرجة الثانية يعيشون في ظل قيود قانونية وسياسية، يواجهون التآكل المستمر لحقوقهم، فيناضل البعض منهم مع أقلية واهية من اليهود من أجل المساواة، وهم يعيشون منقسمين بسبب معضلة أنّ دولتهم في حالة حرب مع أمتهم! نفاق الغرب هو أنه لا يتم الاعتراف بالديمقراطية إلا إذا كانت تخدم المصالح الغربية.

الحقيقة هي أنّ الاستعمار لم ينته بالاستقلال. لم ينته سوى شكل واحد من الاستعمار، وهو الاحتلال الأجنبي المباشر، فاتخذ الاستعمار أشكالاً جديدة بالفصل العنصري الذي تفرضه إسرائيل في الأراضي المحتلة. وفي الأراضي المحتلة في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، الحكم الذاتي الفلسطيني هو بالكامل في أيدي سلطة الاحتلال، القمع المنهجي هو بمصادرة الأراضي، والتغيير القسري للإقامة، وإدارة المياه والكهرباء، والحرمان من الخدمات الأساسية. وحول الاحتلال العنيف قطاع غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.

حاولت إسرائيل محو الهوية الفلسطينية، معتبرة أنه لولا وكالة «الأونروا» لكان من المرجح أن يكونوا قد فقدوا هويتهم واندمجوا في المجتمع المحيط» أي العالم العربي حيث لجأوا.

قد يقول البعض إنّ إطلاق الصواريخ على إسرائيل هو سبب، لكن عدم التناسب بين هجمات «حماس» والرد الإسرائيلي بالتسبب بالموت العشوائي لآلاف الأبرياء هو الذي يجب إدانته أصلاً. وعندما نقف أمام ما حدث بعد طوفان الأقصى، علينا أن نتذكر أنّها حلقة جديدة، وإن كانت أكثر رعباً، من سلسلة العنف المتكرر. نتذكر حقيقة أنّ الهجمات الإسرائيلية تكررت لأسباب عدة أساسها الاحتلال، وتسببت بعشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين، ومنها الاعتداءات المتكررة على الضفة الغربية غير الخاضعة لحكم «حماس». هذا بالإضافة إلى التدمير الوحشي للبنى التحتية في قطاع غزة، بما في ذلك المدارس. إنه إرهاب الدولة، الذي يستعمل أسلحة قدمتها الولايات المتحدة لإبقاء شعب بأكمله في حالة رعب دائم.

على وسائل الإعلام الغربية أن تشعر بالخجل من تعاملها مع فلسطين. فيجري التركيز على أنّ ما حدث في غزة سببه هجوم حماس الدموي في السابع من أكتوبر، وكأنه قبل ذلك، لم يكن هناك غزو استفزازي للمسجد الأقصى، ولم يكن هناك أي إطلااق نار على المصلين في منتصف شهر رمضان، كما لم تكن هناك هجمات استمرت شهوراً من قبل عصابات من المتعصبين اليهود ضد المباني السكنية والتجارية في القدس. فيضع هذا الإعلام اللوم بالكامل على «حماس»، بحجة أنّ إسرائيل تدافع عن نفسها. ويصور أنه خلال الضربات الإسرائيلية، «يموت» فلسطينيون، في حين أنّ الإسرائيليين «يقتلون على يد حماس».

إيلان بابيه، المؤرخ اليهودي قال، بكثير من الألم، إنّه بعد سبعين عاماً من المحرقة، يخضع الإسرائيليون الفلسطينيين لتكتيكات التدمير والإذلال والإنكار ذاتها التي استخدمها النازيون ضد اليهود. في عام 1933، لم تكن غالبية اليهود الألمان من الصهاينة، وكانت أكبر منظمة يهودية تسمى «الرابطة المركزية للمواطنين الألمان من أتباع اليهودية». كان هتلر مهووساً بفكرة طرد اليهود من ألمانيا ومن أوروبا قبل وقت طويل من أمره بالهولوكوست. تفاوض النازيون على اتفاق مع الاتحاد الصهيوني الألماني بهدف نقل اليهود إلى فلسطين. ووفقاً لاتفاقية هاعافارا لعام 1933، صادرت ألمانيا ثروات المهاجرين، لكنها ستنقل 42.8 في المائة من القيمة الإجمالية لأصولهم إلى الوكالة اليهودية لفلسطين، جزء منها في سلع منتجة في ألمانيا. تشير التقديرات إلى أنّ 40,000 ألماني و80,000 بولندي فقط هاجروا إلى فلسطين وفق ذلك.

أما لاحقاً، فقد تسبب إنشاء دولة إسرائيل بعملية تطهير عرقي ضخمة، فتم طرد 750,000 فلسطيني من منازلهم وأراضيهم، مع إضافة أكثر من 300,000 آخرين بعد حرب عام 1967. في إسرائيل اليوم جماعات يمينية متطرفة تطالب بطرد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة وإرسالهم إلى الدول العربية. على مدى عقود، تم تدمير مدن بأكملها، وترك الجرحى الفلسطينيون ليموتوا لأنّ الجيش الإسرائيلي منع المسعفين من الوصول إليهم. وإذا اشتبه بقيام فلسطيني بعمل مقاومة، تعتقل سلطات الاحتلال والديه وأفراد أسرته وجيرانه، وتقطع عنهم المياه والكهرباء. ووفقاً للصحافي الراحل روبرت فيسك، اعتاد ضابط إسرائيلي رفيع المستوى أن ينصح قواته، باتباع التكتيكات التي اعتمدها الجيش الألماني في الحي اليهودي في وارسو، عند دخول المخيمات الفلسطينية.

ومن الصعب أن نتكلم عن الأمل في حلول سلمية. ولا يمكن أن نركن لاتفاقات بوقف إطلاق النار، لأنّ الهدف الوحيد هو أن تصمد التحالفات الغربية المسؤولة عن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني. قد يكون الأمل الوحيد، هو الدفع بإسرائيل نحو العزلة، وقد تكون مبادرة جنوب أفريقيا بالادعاء عليها بجرائم حرب وإبادة جماعية أول الغيث.

MISS 3