بشارة شربل

هكذا الشهادة لكل لبنان

15 كانون الثاني 2024

02 : 00

من تشييع حسن العاصمي (تصوير فضل عيتاني)

قلَّما اجتمع في حادث واحد هذا الكمُّ من المعاني. لكنّه حصل فعلاً حين سقط حسن العاصمي في الأشرفية برصاص أحد شذاذ الآفاق.

لم يكن حَسن شخصية عامة لتضجّ وسائل الإعلام بالخبر الفجيعة، ولا ابن عشيرة يُخشى أن تأخذ بالثأر، ولا صاحب حظوة في طائفة مُستنفَرة، أو في حزب مرهوب الجانب يجيد الانتقام خارج المحاكم والأعراف. حَسن، مجرّد شرطي بَلدي أراد القيام بواجبه فسقط صريع شعور منحرفين كثيرين بجدوى تجاوز القانون وبفائدة الاستقواء على المولجين حماية الأمن الاجتماعي للمقيمين في مناطق لا تزال تقاوم الجنوح إلى الأمن الذاتي.

رغم القتل الوحشي في غزة منذ مئة يوم، ورؤية جثث المدنيين الممزقة تناهز 24 ألفاً عدا الذين وارَاهم الركام، أو مشاهد أيدي الجوعى المتزاحمين تمتدّ طلباً لحفنة طعام، يشعر المرء أنّ لمقتل حَسن مرارةً استثنائية كونه يأتي من خارج السياق الطبيعي للموت، وبعيداً عن حسابات الصراع المفتوح مع إسرائيل هذه الأيام. فلا هو توفي قضاءً وقدراً، ولا كان مقاتلاً اختار مصيره راضياً مرضياً، ولا هو مواطن صار «أضراراً جانبية»، لأنّ يحيى السنوار ارتأى الوقتَ مناسباً لـ«طوفان الأقصى» فأفلَتَ الوحش الكامن وتسبَّب بدوران آلة القتل.

يَختصر مقتل حسن العاصمي ببساطته المريعة معظم أزمات لبنان التي يجري التنظير لطرق معالجتها وتحريف أسبابها والقفز فوق وقائعها لتستمر مآسي اللبنانيين.

فالشرطي البلدي ابن «طريق الجديدة» ربُّ عائلة مستورة وأطفال صاروا يتامى فيما كان والدهم يضمن أمن بيروته والساهرين المقتدرين مقابل أجر زهيد لا يستحق المخاطرة بعدما اضمحلت الرواتب وانهارت العملة. أما ما قامت به السلطة لمعالجة ما اقترفته يداها في هذا الإطار، فهو وعود كاذبة بالإصلاح تركت ذوي الدخل المحدود في متاهة العوَز وكلَّ لبنان على رصيف الانتظار.

تُذكّر الإشارة إلى جنسية القاتل السورية بأنّ وجود مليوني نازح في لبنان لا يضغط على البنية التحتية فحسب، بل صار عبئاً أمنياً مؤذياً بدليل أنّ نحو 40 في المئة من السجناء باتوا سوريين، ومن شأن ذلك تنبيه «المنظمات غير الحكومية» وهيئات حقوق الانسان إلى وجوب التوقف عن المزايدة السخيفة بإطلاق تهم العنصرية الشعبوية في وجه المطالبين بإعلاء مصلحة لبنان. وفي هذا الملف بالتحديد، فشلت السلطة في تحقيق أي تقدم رغم الوفود التي طأطأت الرؤوس في «قصر المهاجرين» والمؤتمرات التي ملأت القاعات بالأبحاث والأوراق.

كشفت الجريمة أنّ القاتل كان ينقل مخدرات إلى بعض أماكن السهر، وأنّ عيون الأمن مغمضة عن ملاهِِ معروفة بالأسماء يسرح ويمرح فيها المروّجون، مثلما هي عاجزة عن مكافحة آفة الممنوعات في الجامعات. والأمر خطير وأولوية، لكن للأسف فإن الحكومة تتوهم إدارة سياسات كبرى فيما هي في ذيل الخيل من قرار السلم والحرب إلى أصغر حفرة في أوتوستراد دولي.

مقتل حسن العاصمي جريمة «جريئة» نتيجة لشلل المؤسسات وقناعة المجرم بإمكان النجاة بجلده والإفلات من العقاب. وكيف لا يأمل قاتلُ شخص واحد بعدم الحساب فيما جريمة المرفأ التي أودت بالمئات دخلت غياهب استتباع القضاء والنسيان؟

حَسن شهيدُ كل لبنان. كان أعزلَ إلا من واجب الدفاع عن الناس.

MISS 3