عيسى مخلوف

النكبة المستمرّة

20 كانون الثاني 2024

02 : 01

كشفت الحرب على غزّة ملامح سياسية وإعلامية لم تظهر للعلن في مثل هذا الوضوح كما الحال الآن. ومع ثورة تكنولوجيا المعلومات وبثّها على مستوى العالم أجمع، لم يتمكّن المُمسكون بالإعلام في الغرب من التلاعب بالوقائع الجارية وتزوير المعلومات والحقائق. البيت الأبيض نفسه، وبحسب شبكة «سي إن إن، تراجع عن تصريحات تدّعي أنّ صور أطفال إسرائيليين «قُطعت رؤوسهم على يد حماس». ولذلك، فإنّ القضيّة الفلسطينية اليوم تلقى اهتماماً شعبياً في الغرب لم تعرفه من قبل، وتخرج من التعتيم المفروض عليها منذ عقود من الزمن.


في موازاة ذلك، عاد الاهتمام مجدّداً إلى كتاب المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابي وعنوانه «التطهير العرقي في فلسطين»، الذي نشرته دار فايار الفرنسية في العام 2008، غير أنّ الدار اعتبرت في الثامن من شهر تشرين الثاني الماضي أنّ جميع نُسخ الكتاب نفدت. ومن المتوقّع أن يصدر الكتاب في طبعة جديدة في شهر أيّار المقبل عن دار نشر «لافابريك» المعروفة بتعاطفها مع القضيّة الفلسطينية. في هذا الكتاب، يلقي إيلان بابي نظرة على تشكيل دولة إسرائيل، وكيف كان الترحيل والتطهير العرقي جزءاً جوهرياً من استراتيجيا الحركة الصهيونية، ويتناول ما حدث بين عامي 1947 و1949 وكيف «دُمِّر أكثر من 400 قرية فلسطينية عمداً، وفُرِّغت 11 مدينة من السكّان بالقوّة، وذُبحَ مدنيّون، وطُرد زهاء مليون رجل وامرأة وطفل من منازلهم تحت تهديد السلاح، وهذه لم تكن هجرة، وإلاّ فلماذا يصبح نصف سكّان فلسطين لاجئين إن لم يُطردوا بالقوّة؟ ولقد مرّ هذا التطهير العرقي بصمت لأكثر من ستين عاماً».


ينتمي إيلان بابي إلى فئة من المؤرّخين الجدد الذين أعادوا النظر، بشكل موضوعي، في تاريخ دولة إسرائيل والصهيونية. أثارت أطروحاته ردود فعل كثيرة، داخل المجتمع الإسرائيليّ وخارجه، ما اضطرّه إلى الذهاب إلى بريطانيا في العام 2007 والعمل بصفته أستاذاً للتاريخ في جامعة إكستر ومديراً للمركز الأوروبي لدراسة فلسطين. وفي مقابلة أجريت معه مؤخّراً، يتحدّث المؤرخ الإسرائيلي قائلاً إنّ إسرائيل هي «مشروع استعماري استيطاني»، مؤكّداً من جديد أنّ النكبة كانت عملية تطهير عرقي وطرداً ممنهجاً للفلسطينيين، ولقد خلص إلى القول إنّ «النكبة مستمرّة».


في هذا السياق، صدر عن دار «سوي» الباريسيّة، في الخامس من هذا الشهر، كتاب آخر بعنوان: «شعبان لدولة واحدة» للمؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند الذي عُرف عنه قوله إنّ «الصهيونيّة اخترعت أسطورة عدم وجود السُكّان والأرض الفارغة لتبرير سرقة فلسطين». في كتابه الجديد، يعتبر هذا المؤرّخ أنّ مسألة حلّ الدولتين متعذّرة في الواقع، ويعود إلى نشأة الصهيونية ليرى بشكل أكثر وضوحاً ما الذي يجري على الأرض. وهو يأمل، على الرغم من كل هذا العنف المجنون، الوصول إلى حلّ ينقذ الشعبين معاً من خلال إنشاء دولة ثنائية القومية حيث يكون الإسرائيليون والفلسطينيون مواطنين في الدولة نفسها. هذا التطلّع كان ذات يوم مشروعاً طموحاً آمن به عدد من المثقفين اليهود، من بينهم الفيلسوفة حنّة آرنت. عادت هذه الفكرة إلى الواجهة الآن بعد العملية التي قامت بها حماس والتدمير المنظّم لغزّة.


إنّ ثنائية القومية «ليست مجرّد أمنيات»، بحسب شلومو ساند. «إنها حقيقة واقعة: هناك سبعة ملايين ونصف إسرائيلي يسيطرون من خلال سياسة الطرد والتهجير والقمع على شعب عربي فلسطيني يبلغ تعداده سبعة ملايين ونصف نسمة، قسم كبير منهم محروم من حقوقه الأوّلية، الحقوق المدنيّة والحريات السياسية الأساسية. ومن الواضح أنّ مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمرّ إلى الأبد».


في مقابلة أجرتها مجلّة «تيليراما» الفرنسيّة، ينتقد المؤرّخ الإسرائيلي ما قامت به حركة حماس، لكنه يصل إلى الاستنتاج الآتي: «إنّ رفض الاعتراف بأنّ ستّين في المئة من سكّان غزّة يأتون من الأماكن التي نعيش فيها نحن، أبناء إسرائيل، هو حالة من العمى، ولا يمكننا أن نفهم ما جرى في السابع من شهر تشرين الأول من دون معرفة التاريخ». ويضيف: «أنا أرفض مصطلح «الإبادة الجماعيّة» في غزّة، لكنّنا نقتل النساء والأطفال بالآلاف، وهذه ليست المرّة الأولى. إضافة إلى ذلك، نحن نخوض هذه الحرب من دون أن يكون لدينا أيّ مشروع سياسي... لقد قذفتنا أوروبا في اتجاه عرب فلسطين، ونحن ندفع ثمن ذلك بالدماء من الجانبين». وهذا ما بدأت تعيه اليوم قطاعات واسعة من شعوب العالم.


يتكشّف من خلال هذه المواقف أنّ هذه الفئة من المؤرخين والمثقفين يعنيها مصير شعبها بقدر ما يعنيها مصير الفلسطينيين، وأن لا سلام في الأفق من دون حلّ عادل. لكنّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإن كانت المجزرة مستمرّة الآن والحلول صعبة ومعقّدة، لن يمكنه أن يكون كما كان قبل ثلاثة أشهر.            

MISS 3