عيسى مخلوف

الذكاء الإصطناعي في غمار الحرب!

27 كانون الثاني 2024

02 : 00

الصورة لمحمّد سالم، وكالة «رويترز»، نقلاً عن «لوريان لو جور»

يشكّل تقدُّم الذكاء الاصطناعي لحظة تحوُّل كبرى في التاريخ، لكنّه ككلّ تقدّم علميّ ينطوي على وجهين، إيجابي وسلبي. إيجابي عندما يكون لصالح جميع البشر، وسلبي حين يُستخدم بطريقة تنتصر لفئة ضدّ أخرى بهدف السيطرة والتسلّط. تتوقّف أهميّة العلم، إذاً، على كيفيّة استعماله. في هذا المجال، يقول الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه الذي عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر: «العلم بلا ضمير ما هو إلاّ خراب للروح».

وإذا كان الخبراء الذين يقفون وراء برمجة الذكاء الاصطناعي، هذا الفتح العلمي الجديد، ويؤكّدون على تمكّنه من مساعدة الإنسان على إيجاد حلول لقضايا معقّدة في مختلف الحقول والميادين، من البيولوجيا والطبّ وعلم الفلك إلى الزراعة والصناعة والمناخ، فإنّ هذا النوع من الذكاء يمكن استخدامه أيضاً في مسائل أخرى خطيرة كأن يتحوّل إلى أداة ضخمة للتجسّس، ما يذكّرنا برواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل، أو يصبح جزءاً أساسيّاً في صناعة الأسلحة والتأثير في ميزان الحروب، وهذا ما يجري منذ سنوات عدّة، لكنّه وصل إلى أوجه الآن في حرب غزّة، بحسب بعض الخبراء الغربيين. ولقد نشر عدد من الصحف والمجلاّت الغربيّة مقالات ومقابلات مع متخصّصين في هذا الحقل، كشفوا فيها لجوء إسرائيل إلى إمكانيات الذكاء الاصطناعي كأحد المكوّنات الأساسية في حربها على غزّة، لا سيّما في الغارات الجوية. وهذا ما يفسّر حجم الدمار وعدد الضحايا في غضون فترة زمنيّة محدودة، ممّا دفع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى القول «إنّ ما تعرّضت له المباني في غزّة يتجاوز مستوى التدمير الذي شهدته المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية». تؤكّد على هذا الكلام الباحثة في المؤسسة الفرنسيّة للعلاقات الدولية لُور دوروسي روشغوند في مقابلات مع وسائل إعلامية في باريس أوضحت فيها أنّ الذكاء الاصطناعي يسمح، ولأول مرّة بهذه الكثافة، بجمع معطيات ومعلومات كثيرة آتية من مصادر متنوّعة منها مراقبة المحادثات الهاتفية والاتصالات عبر الإنترنت وصور الأقمار الصناعية. إنّ استخدام برنامج قادر على اقتراح أهداف للقصف بسرعة غير مسبوقة من خلال كتلة من البيانات غير المتجانسة يفسّر حدوث هذا الحجم الهائل من الدمار وهذا العدد الكبير من القتلى والجرحى. وتلاحظ الباحثة روشغوند أنّ هذه التقنية «تعرف بالتحديد من يقطن داخل المباني المستهدفة وكم عدد المتواجدين فيها من نساء وأطفال، وكيف يمكن تدمير مبنى بأكمله إذا كان الهدف قتل فرد واحد من حماس». يمكن القول، هنا، انّ غزّة أصبحت حقل تجارب للذكاء الاصطناعي في المجال الحربي.

من جانب آخر، كشفت هذه الحرب المدمّرة عن وجه آخر للذكاء الاصطناعي الذي يتباهى مبتكروه بمعلوماته الموضوعيّة، وإذا به يسقط في الامتحان الأوّل عندما يتعلّق الأمر بالسياسة وبالقضيّة الفلسطينيّة وحقوق الفلسطينيين. وهذا ما تكشّف أيضاً في غالبية القطاعات، وقد ركّزنا على ذلك في مقالاتنا السابقة في الأسابيع الماضية، ورأينا إلى أيّ مدى تخضع مؤسّسات ومراكز علمية وثقافية وإبداعية وغاليريات ودور نشر في الغرب، وكذلك بعض كبريات الجامعات ومنها جامعة هارفارد الأميركية، لسطوة متموّلين كبار منحازين سياسيّاً. وهكذا فإنّ الهيمنة على روح العلم والمعرفة والثقافة والأدب والفنّ، فضلاً عن تسييس الذكاء الاصطناعي، جزء من منظومة سياسيّة ماليّة تمسك العالم من قرنيه وتأخذه أكثر فأكثر نحو الهاوية.

القانون الإنساني الدولي يدعو إلى «الامتناع عن شنّ هجوم من المتوقّع أن يسبّب أضراراً عَرَضيّة للسكّان المدنيين»، لكن مَن الذي يسمع صوت القانون في عالم يعود بشكل خطير إلى منطق القوّة الخالص، وإلى السلطة المطلقة وما يفرضه جبروت الرعب العسكري الذي لا يأخذ في الاعتبار بشراً وقيماً إنسانية؟ وإذا كان الذين أرسوا القانون الإنساني الدولي بعد أهوال الحرب العالمية الثانية يخرقونه اليوم، فهذا لا يعني التوقّف عن المطالبة به، كما جرى مؤخّراً في محكمة العدل الدولية في لاهاي، والدفاع عنه وعن العقلانية القانونية التي أصبحت الآن أكثر شرعيّة وضرورة من أيّ وقت مضى.

MISS 3