منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحركة «حماس»، أطلقت إيران وعملاؤها حملة جماعية ضد القوات الإسرائيلية والأميركية في الشرق الأوسط. كانت تلك الحملة تجازف بِجَرّ الولايات المتحدة إلى صراع مطوّل. ثم شنّت إيران ضربات صاروخية ضد ثلاث دول مجاورة في الفترة الأخيرة، فأطلقت بذلك مرحلة جديدة محتملة من الاضطرابات المتوسعة التي تُقرّب الشرق الأوسط من الغرق في حرب إقليمية كبرى.
كانت إيران تحاول أن تثبت قوتها العسكرية وصلابتها عبر تلك الاعتداءات، لكنها كشفت في الوقت نفسه عن ضعفها الكامن وحدود قوتها الاستراتيجية.
في 16 كانون الثاني، استعملت إيران خليطاً من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة لاستهداف مواقع في سوريا، والعراق، وباكستان، على اعتبار أن تلك الأماكن ترتبط بالاستخبارات الإسرائيلية وجماعات إرهابية معادية للنظام الإيراني. بدت تلك الاعتداءات رداً ظاهرياً على التفجيرات الانتحارية التي استهدفت مدينة كرمان الجنوبية في وقتٍ سابق من هذا الشهر وأسفرت عن مقتل 84 إيرانياً على الأقل.
أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليته عن تلك العملية التي استهدفت حشداً من الناس في ذكرى اغتيال الجنرال قاسم سليماني بضربة صاروخية أميركية منذ أربع سنوات، لكن لام المسؤولون الإيرانيون إسرائيل والولايات المتحدة أيضاً.
كانت ضربات إيران الأخيرة مُصمّمة لتذكير خصومها بأنها مستعدة لتصعيد الوضع وتملك القدرات اللازمة لفعل ذلك. تُعتبر صواريخها دقيقة ويمكن استعمالها ضد مواقع مستهدفة في أي مكان من المنطقة. ربما نجحت إيران في إثبات قوة تصميمها وقدراتها، لكنها هاجمت أماكن ثانوية. هي لامت إسرائيل والولايات المتحدة على التفجيرات الانتحارية في مدينة كرمان، لكنها لم تردّ عليها مباشرةً. ورغم دعم طهران القوي لسكان قطاع غزة، لم تحاول إيران استعمال قوتها العسكرية من أجلهم، بل اكتفت بإطلاق صواريخ باليستية ضد منازل مدنية معزولة في دول ضعيفة بدل استهداف المواقع العسكرية. اختارت إيران التحرك ضد بلدان لن تحاول، بحسب تقديراتها، الرد عليها بقوة أو تصعيد الوضع بدرجة خطرة.
لم يعترف النظام السوري بالاعتداء الإيراني، حتى أنه دعم تلك العملية ضمناً لأن الصواريخ سقطت في أرض يسيطر عليها الثوار. كذلك، شعرت الحكومة العراقية التي يسيطر عليها سياسيون مقرّبون من إيران بالإحراج والاضطراب بسبب التحركات الإيرانية، فاكتفى المسؤولون فيها باستدعاء سفيرهم من طهران وإصدار بيان ديبلوماسي احتجاجاً على ما حصل. لكن نظراً إلى نفوذ إيران الهائل وسط الميليشيات الشيعية المدججة بالسلاح في العراق وداخل الأوساط العراقية الرسمية، لم تتمكن بغداد من اتخاذ أي خطوة أخرى.
كانت باكستان الدولة الوحيدة التي تستطيع الرد على العدوان الإيراني بطريقة عملية بدل الاكتفاء بالمواقف الشفهية العابرة. بالإضافة إلى سحب سفيرها من طهران ومنع مبعوث إيراني من البقاء في البلاد، أطلق الجيش الباكستاني ضربات جوية فورية ضد المنشقين البلوش في إيران. لكن بعد الرد على التحرك الإيراني بالمثل وقتل 11 مدنياً على الأقل وتدمير أحياء سكنية في البلدَين، أصدرت الحكومة الباكستانية بياناً يعتبر إيران بلداً «شقيقاً» ويهدف إلى منع تصعيد الوضع. كان القادة الإيرانيون محقين حين افترضوا أن باكستان لا ترغب في إطالة تلك الأعمال العدائية، ما يعني أن التحركات الإيرانية لن تترافق مجدداً مع أي تداعيات كبرى.
لهذا السبب، باتت إيران تجيد استعمال هذه التكتيكات لردع خصومها، حتى أنها تتكل على هذه المقاربة في معظم الأوقات. رغم تفوّق إيران عسكرياً في المنطقة، تفتقر البلاد إلى القوة اللازمة لخوض القتال مع خصومها أو الاشتباك مع أعداء أكثر قوة بطريقة مباشرة. وحتى في الحروب التي شهدتها سوريا والعراق، حيث كان «الحرس الثوري» الإيراني جزءاً أساسياً من الصراع، تخبّطت القوات التي تقودها إيران في الصراعَين إلى أن تدخّلت روسيا والولايات المتحدة. لم تقلب القوات المدعومة من إيران الوضع ضد الثوار السوريين إلا تحت مظلة القوات الجوية الروسية، وكان التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة (شمل الجيش العراقي والقوات الكردية) المسؤول الأول عن هزم تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق.
تملك إيران قدرات صاروخية وطائرات مسيّرة مبهرة، لكن لا تستطيع تلك الإمكانات أن تُحقق إنجازات كثيرة. مقارنةً بعدد من الدول المجاورة، تبقى القوات الجوية الإيرانية ضعيفة وتتكل على منصات بالية من حقبة الحرب الباردة، مثل طائرات «فانتوم أف 4». قد تكون القوات الإيرانية البرية أكثر قوة، لكنها أقوى من غيرها دفاعياً وتعجز عن الاستيلاء على الأراضي بسهولة والاحتفاظ بها خارج الحدود الإيرانية.
تبدو الميليشيات الشيعية التابعة لإيران محدودة بالقدر نفسه. قد تكون هذه الأطراف الأكثر فاعلية حين تتحرك على شكل جماعات متمردة في أرضها الأم أو جهات هدفها تخريب الوضع السياسي. لكن ما لم تحصل على بيئة متساهلة حيث تستطيع تنفيذ عملياتها أو تحظى بدعم قوة عسكرية أجنبية متفوّقة، كما حصل في سوريا، لن تتمكن من شن عمليات تقليدية. يمكنها أن تزرع القنابل على جانب الطرقات، وتطلق المدفعيات والصواريخ والطائرات المسيّرة، وتخطف خصومها المحليين وتقتلهم، وتشارك في اعتداءات مبنية على نصب الكمائن، لكن تقف قدراتها عند هذا الحد.
قد تبقى هذه التكتيكات فاعلة، إذ يصعب أن تتصدى لها جيوش الدول الأجنبية من دون الالتزام بإطلاق حملات مطوّلة واستعمال قوة مفرطة. تُعتبر الحملة التي أطلقتها الميليشيات الشيعية ضد القوات الأميركية في سوريا والعراق خير مثال على ذلك. ردّت الولايات المتحدة أحياناً عبر ضربات محدودة، لكنها ترددت في الرد على أكثر من 120 هجوماً صاروخياً ضد القوات الأميركية على يد ميليشيات مدعومة من إيران منذ تشرين الأول، إذ ما من طريقة بسيطة للتعامل مع تلك الميليشيات من دون محاربتها مباشرةً. هذه الخطوة لن تجرّ الولايات المتحدة إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط فحسب، وهو نهج لا يحظى بأي دعم في أوساط السياسة الأميركية الداخلية، بل إنها قد تُهدد الجهود الأميركية المستمرة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وتُضعِف علاقات البلاد مع العراق أيضاً.
تتّضح الحساسيات السياسية التي تحدّ التحركات الأميركية في ردّ الحكومة العراقية على ضربة أميركية حديثة أسفرت عن مقتل قائد ميليشيا في بغداد. يستعمل الحوثيون في اليمن الاستراتيجية نفسها في محاولة منهم لمحاصرة عمليات الشحن عبر البحر الأحمر. مجدداً، يتّكل الحوثيون على الصواريخ والطائرات المسيّرة ويبدون استعدادهم لتحمّل الردود الأميركية المحدودة لأنهم يفترضون أن الولايات المتحدة لا تريد خوض الحرب في اليمن، ما يعني أنها لن تستعمل ما يكفي من الموارد والأسلحة لتهديد سيطرة الحوثيين على أراضيهم. يبدو الحوثيون من جهتهم مستعدين لتقبّل بعض الخسائر لأنهم يفترضون أن المنافع السياسية للجهود التي يبذلونها تفوق المخاطر المطروحة.
ينطبق الوضع نفسه على إيران وعملائها الآخرين، وهذا ما يفسّر إصرارهم على إطلاق هذا النوع من التحركات. هم يأملون في توريط الولايات المتحدة في وضعٍ لا يمكن الفوز به وقد يدفع واشنطن في نهاية المطاف إلى تفضيل التخلي عن التزاماتها العسكرية في المنطقة بكل بساطة بدل استعمال موارد إضافية للحفاظ على الوضع القائم.
قد يواجه عملاء إيران ردوداً محدودة من الولايات المتحدة وإسرائيل لأنهم لن يجازفوا بخسارة الكثير. في المقابل، قد تتكبد إيران خسائر كبرى إذا افتعلت صراعاً مباشراً مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. لا تستطيع إيران مثلاً أن تكرر حملة محاصرة عمليات الشحن التي فرضها الحوثيون في مضيق هرمز. يمكنها أن تحاول القيام بالمثل، لكن تكثر المخاطر المطروحة إذا نشأ صراع مباشر مع الولايات المتحدة، ولا ننسى الضغوط التي ستتعرض لها علاقات البلاد مع الصين والدول المجاورة.
تُكلّف إيران عملاءها بتنفيذ معظم أعمال العنف لأنها تريد تقليص هذا النوع من المخاطر. هذا ما يفسّر أيضاً دور عملائها القيادي في التحركات العسكرية ضد خصومها الخارجيين خلال الأزمة الراهنة. من خلال تكليف العملاء بنشاطاتها الاستراتيجية، تبقى المعركة بعيدة عن حدود إيران وتضطر جهات أخرى لتحمّل التكاليف.
في الظروف الراهنة، يحاول الإيرانيون وعملاؤهم فرض أنفسهم كقوة فاعلة للتصدي لإسرائيل والولايات المتحدة، لكنهم لا يملكون أوراقاً رابحة كثيرة، لا سيما على مستوى التحركات العسكرية، إذ تقتصر معظم نشاطاتهم في هذا المجال على ضربات المواجهة. يمكنهم أن يستهدفوا المواقع من مسافة بعيدة ويهددوا بإطلاق عملية مماثلة ضد الجيران والخصوم في آن، لكن يعجز الإيرانيون وعملاؤهم عن اتخاذ أي خطوات أخرى. هم لا يستطيعون نقل حربهم إلى إسرائيل أو تحرير فلسطين بالقوة، بل تقتصر تحركاتهم على عمليات استفزازية تهدف إلى رسم معالم البيئة السياسية. بالنسبة إلى إيران، تثبت هذه التحركات ما تستطيع البلاد فعله وتكشف أقصى ما تنوي القيام به خدمةً لقضيتها.