عمر العظم

خطة فيسبوك الشائبة لإنهاء الإتجار بالآثار

6 تموز 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في 23 حزيران، أعلنت شبكة فيسبوك عن تحديث معاييرها لفرض حظر على "المحتويات التي تحاول شراء الآثار التاريخية أو بيعها أو الاتجار بها أو التبرع بها أو طلبها". يشير هذا التحول في سياسة الموقع إلى تغيير بارز في موقف فيسبوك من المتاجرة بالممتلكات الثقافية، وهو يأتي رداً على التحذيرات التي أطلقها علماء الآثار وخبراء الإرهاب حول الاتجار غير القانوني بآثار الشرق الأوسط المسروقة، علماً أن تلك الممارسات ازدهرت على هذه المنصة في السنوات الأخيرة.

بدأت عمليات الاتجار بالآثار عبر فيسبوك منذ الربيع العربي في العام 2011 تقريباً. لكن سرعان ما تحولت هذه المنصة إلى معقل أساسي لنهب التراث الثقافي في العام 2014، حين بدأ تنظيم "داعش" يعطي طابعاً مؤسسياً لنهب المواقع الأثرية في العراق وسوريا. ساهمت الصفحات الخاصة على فيسبوك وأنظمة الحلول الحسابية المعقدة في تحويل الاتجار بالآثار إلى مصدر مهم لتمويل الجماعات الإرهابية.

يمنع فيسبوك منذ فترة طويلة بيع القطع المسروقة. لكن لم تبذل الشركة جهوداً كبرى لتفعيل سياساتها، بل إنها تتكل بشكلٍ أساسي على المستخدمين لإبلاغها بأي انتهاكات مشبوهة ثم يراجعها مراقبو المحتويات فيها، مع أنهم يفتقرون إلى التدريب المتخصص لتحديد الآثار بشكلٍ صحيح والتأكد من أنها مسروقة. في الأسبوع الماضي، انضمت الآثار التاريخية إلى المخدرات والأسلحة على لائحة السلع التي يُمنَع بيعها لأي سبب. وفق مصادر فيسبوك، تشمل هذه الخانة القطع والمخطوطات الجنائزية القديمة والأختام المحفورة وأعضاء الجسم المحنّطة و"قطعاً نادرة أخرى لها قيمة تاريخية أو ثقافية أو علمية".

يرحّب العلماء الذين أمضوا سنوات وهم يتعقبون الاتجار غير الشرعي بآثار الشرق الأوسط ويحللون دور هذه التجارة في تمويل الإرهاب بقرار فيسبوك الأخير باعتباره مؤشراً على اعتراف الشبكة أخيراً بضخامة هذه المشكلة الخطيرة. لكن تكثر المخاوف حتى الآن من المقاربة التي تُخطط لها الشركة لمحاربة الاتجار بالآثار. صحيح أن سياسة فيسبوك الجديدة تُعتبر استباقية أكثر من السياسات السابقة، لكن لا تدرك الشبكة على ما يبدو أهمية الحفاظ على المواد التي تحذفها بدل تدميرها بكل بساطة لأن الاتجار بالآثار جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني.



حسابات على فايسبوك تعرض آثاراً للبيع في سوريا والعراق



أسواق سوداء رقمية

في العام 2011، ساهم فيسبوك في تحريك أحداث الربيع العربي، فحوّل الاحتجاجات المحلية المتفرقة إلى ظاهرة عالمية شائعة. أسقطت الانتفاضات القادة الاستبداديين وأشعلت الجدل السياسي في بلدان كانت تقمع حرية التعبير منذ عقود. لكن أدت تلك الاضطرابات أيضاً إلى زعزعة استقرار مجتمعات كاملة في ليبيا وسوريا واليمن، ثم اتخذت شكل حروب أهلية دموية جذبت إليها مجموعة من المسلحين داخل الدولة وخارجها ويتابع هؤلاء حتى الآن نشر الفوضى في المنطقة بعد مرور عشر سنوات تقريباً. مهّدت تلك الصراعات لتقوية جيل جديد من الجماعات الإرهابية والإجرامية العابرة للحدود، وقد أثبت عناصرها براعتهم في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لترويج أفكارهم الإيديولوجية وتمويل نشاطاتهم.

تُطوّر منظمات إرهابية ناجحة مصادر دخل متنوعة وقد سمحت لها الأسواق السوداء الرقمية المتزايدة التي أنشأها متطرفون بارعون في استخدام الإنترنت على فيسبوك ومنصات إلكترونية أخرى بالاستفادة من بيع جميع أنواع المنتجات، بدءاً من المخدرات وأعضاء البشر وصولاً إلى الحيوانات المهددة بالانقراض. يُعتبر الاتجار بالقطع الأثرية النادرة من أبرز القطاعات التي تشهد نمواً هائلاً في السوق السوداء. مقارنةً بالمبالغ الطائلة التي يتم إنفاقها لتهريب المخدرات مثلاً، تبقى الجهود العالمية لمجابهة الاتجار بالآثار متقطعة. في بعض البلدان، لا يزال الاتجار بالآثار المسروقة من الشرق الأوسط غير منظّم في معظمه. بالنسبة إلى الجماعات الإرهابية والإجرامية الناشطة في مناطق الصراع في الشرق الأوسط، أصبح استخراج الآثار القديمة وبيعها أسهل وأقل خطورة من أنواع أخرى من التجارة غير القانونية ويبدو الطلب على القطع المسروقة متواصلاً على نحو مفاجئ.

كان دور فيسبوك محورياً في تسهيل جميع خطوات الاتجار بالآثار بطريقة غير مشروعة. يستعمل المهربون "المجموعات السرية" على فيسبوك (تنشأ صفحات لا تظهر في عمليات البحث ولا يمكن الانضمام إليها إلا بعد تلقي دعوة من الأعضاء فيها) لإنشاء منتديات خاصة تسمح لهم بجمع المعلومات حول تقنيات الحفر ومواقعه والرد على الطلبات واستمالة الشراة عبر صور للقطع المستخرجة حديثاً. يستطيع اللصوص المطلعون على الخصائص الأمنية في الشبكة استخدام ستوريات فيسبوك لنشر صور وفيديوات تختفي تلقائياً بعد 24 ساعة. وتقدم خدمة "فيسبوك ماسنجر" للمهربين رسائل مشفّرة عبر "محادثاتها السرية"، فضلاً عن آلية للتعامل مع المدفوعات الرقمية. كذلك، تَعِد العملة المشفّرة الجديدة التي يُفترض أن تنطلق في السنة المقبلة على فيسبوك بتسهيل هذه المعاملات بدرجة إضافية.

سمحت هذه الأدوات أيضاً بنشوء سوق سوداء متطورة ومربحة جداً في مجال الآثار المسروقة. يستحيل تقييم القيمة الإجمالية لهذه التجارة بدقة (لا ينشر "داعش" تقارير عن الأرباح كل ثلاثة أشهر)، لكنّ أسعار الآثار المعروضة للبيع على فيسبوك تصل إلى 200 ألف دولار وفق بعض التقديرات. قيّم أحد التحليلات دور الوسطاء في المملكة العربية السعودية في عمليات تهريب الآثار من اليمن الغارقة في الحرب واكتشف أن قطعاً أثرية بقيمة 5 ملايين دولار تقريباً شُحنت إلى الولايات المتحدة وحدها بين كانون الثاني 2015 وكانون الأول 2018.





أدلة ضرورية

تُعتبر سياسة فيسبوك الجديدة لمنع بيع الآثار التاريخية خطوة أولى إيجابية كونها تعبّر عن قلق متزايد من تدمير التراث الثقافي الذي لا يُقدّر بثمن. لكن تجازف خطة الشركة الرامية إلى وقف الاتجار بالآثار بحرمان العالم من مواد قيّمة بالقدر نفسه تقريباً: إنها الأدلة على وجود القطع الأثرية المسروقة. لإعاقة الاتجار في السوق السوداء، أعلنت شبكة فيسبوك عن حذف أي محتويات تنتهك قواعدها الجديدة عن منصتها. وبسبب المخاوف المرتبطة بخصوصية البيانات، لا تنوي الشركة الاحتفاظ بالمواد المحذوفة.

لكن في حالات كثيرة للأسف، تكون الصور والفيديوهات التي يُحمّلها السارقون والمهربون (غالباً ما يلتقطونها في موقع الآثار قبل أخذها) الأدلة الوحيدة التي تثبت وجود تلك القطع. لذا تشكّل هذه الصور والفيديوات سجلات ضرورية وأدلة رقمية أساسية لها قيمة كبرى للعلماء، وهي محورية لإعادة الآثار مستقبلاً إلى موقعها الأصلي. بعد أسبوع على صدور قواعد فيسبوك الجديدة، تتابع عشرات المجموعات المخصصة للاتجار بآثار الشرق الأوسط (يشمل بعضها مئات آلاف الأعضاء) نشاطاتها علناً. يتعين على شبكة فيسبوك أن تحذفها من منصتها طبعاً، لكن من الضروري أن تحتفظ أيضاً بالأدلة الرقمية الخاصة بتلك الآثار التي تظهر في مختلف المنتديات.

تزداد أهمية تلك الأدلة عند تهريب الآثار من بلدان تشهد صراعات محتدمة. يدخل الاتجار بآثار مسروقة من الشرق الأوسط في خانة جرائم الحرب أيضاً كونه يسهم في تأجيج الصراعات المتواصلة في تلك المنطقة، وهو انتهاك صريح لاتفاقية لاهاي لحماية الملكية الثقافية في حالة النزاع المسلح من العام 1954. تمنع تلك الاتفاقية "سرقة أي ملكيات ثقافية أو نهبها أو امتلاكها بطرقٍ غير مشروعة أو تخريبها".

تبقى الملاحقة القضائية لجرائم الحرب ضد الملكية الثقافية صعبة. لم تتعامل المحكمة الجنائية الدولية مع أول قضية مرتبطة بتدمير التراث الثقافي ضد أحمد الفقي المهدي، مقاتل مالي ينتمي إلى جماعة "أنصار الدين" الإرهابية، قبل العام 2016. ارتكزت تلك الملاحقة القضائية على فيديوات منشورة على يوتيوب كدليل لإثبات دور المهدي في تدمير مبانٍ تاريخية في مدينة "تمبكتو" القديمة.

استُعملت الأدلة المأخوذة من مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً في قضايا أخرى مرتبطة بجرائم الحرب، منها محاكمة قائد الجيش الوطني الليبي محمود الورفلي في المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب أعمال وحشية تشمل إعدام السجناء. شكّلت الفيديوات المنشورة على فيسبوك أدلة حاسمة في هذه القضية. لو حذف الموقع تلك الفيديوات بكل بساطة، ما كان الورفلي ليُحاكَم يوماً.

غالباً ما تُعقَد محاكم جرائم الحرب بعد سنوات من الصراع، ويضمن الأرشيف الرقمي الحفاظ على الصور والفيديوات كأدلة مفيدة ويمكن استعمالها لأغراض بحثية بعد فترة طويلة من رصدها عبر أنظمة الحلول الحسابية أو الإبلاغ عنها من جانب المستخدمين وحذفها. قد يكون تطوير أرشيف بهذه الأدلة صعباً، لكنه ليس مستحيلاً بالنسبة إلى أكبر شبكة اجتماعية في العالم. ثمة نموذج سابق لهذا النوع من الأرشيف: تحتفظ "مكتبة إعلانات فيسبوك" بالإعلانات المرتبطة بالمواضيع السياسية أو قضايا المصلحة الوطنية بعد سنوات على حذفها عن المنصة. كانت شبكة فيسبوك أول شركة تبتكر مكتبة للإعلانات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أجبر منافسين مثل "سناب شات" على القيام بالمثل.

تملك شبكة فيسبوك اليوم فرصة لاسترجاع دورها القيادي. أدت الابتكارات التي جعلت المنصة أداة أساسية لمهرّبي الآثار في أنحاء مناطق الصراع في الشرق الأوسط إلى نشوء مخزون ضخم للمعلومات، حول التراث العالمي الذي يحمل قيمة هائلة لأجيال المستقبل. في زمنٍ تخضع فيه شركة فيسبوك للتدقيق بسبب دورها الهائل في الثقافة والسياسة، يُفترض أن تستغل الشبكة هذه الفرصة القيّمة لاتخاذ خطوات صائبة.


MISS 3