بعد أشهر من حوار غير فعّال واتهامات متبادلة

واشنطن وموسكو تُعلنان انتهاء معاهدة الأسلحة النوويّة المتوسّطة

13 : 38

أعلنت الولايات المتّحدة وروسيا رسميّاً انتهاء معاهدة الأسلحة النوويّة المتوسّطة، مع تبادل الطرفين الاتهام بالمسؤوليّة عن انهيار هذه الاتفاقيّة الثنائيّة المهمّة، المبرمة خلال الحرب الباردة. وفي خطوة غير مفاجئة، وبعد ستة أشهر من حوار غير فعّال واتهامات متبادلة بالإخلال بالاتفاقيّة، سمحت القوّتان بانقضاء المهلة التي أعلنتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في شباط، من دون تغيير مواقفهما.

وفي هذا الصدد، أوضح وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو في بيان من بانكوك، حيث يُشارك في قمّة إقليميّة أن انسحاب الولايات المتّحدة بما يتوافق مع المادة 15 من الاتفاقيّة بدأ مفعوله أمس، "لأنّ روسيا لم تُجدّد التزامها التام والقابل للتحقّق" في المعاهدة. وأكّد أن "الولايات المتّحدة أثارت مخاوفها لروسيا منذ العام 2013"، مشيراً إلى "الدعم الكامل" من الدول الأعضاء في "حلف شمال الأطلسي" للولايات المتّحدة. وتابع: "موسكو صدّت بشكل منهجي خلال ست سنوات كلّ الجهود الأميركيّة لدفعها إلى احترام النصّ من جديد".

ويتحدّث بومبيو خصوصاً عن الصواريخ الروسيّة "9 أم 729"، التي تُمثّل "تهديداً مباشراً" للأميركيين وحلفائهم، فيما تؤكّد موسكو أن المدى الأقصى لهذه الصواريخ هو 480 كيلومتراً. واعتبر الوزير الأميركي أن السلطات الروسيّة لم تستغلّ خلال الأشهر الستة الماضية "الفرصة الأخيرة" لإنقاذ المعاهدة. وأكّد في الوقت ذاته أن إدارة ترامب ترغب في افتتاح "مرحلة جديدة من تحديد الأسلحة"، تتجاوز الإطار الثنائي الروسي - الأميركي، وتضمّ أيضاً الصين، وهو اقتراح لا يبدو أنّه أثار اهتمام بكين حتّى الآن. كذلك، قال ترامب إنّ "روسيا تُريد أن تقوم بأمر ما في شأن اتفاق نووي"، مضيفاً: "أنا موافق"، من دون أن يُعطي مزيداً من التفاصيل.

وكلام بومبيو جاء بعد دقائق من إعلان وزارة الخارجيّة الروسيّة انتهاء هذه المعاهدة "بمبادرة" من واشنطن، مقترحةً في موازاة ذلك "تجميداً لنشر الصواريخ المتوسّطة المدى". واعتبرت الخارجيّة الروسيّة أن واشنطن ارتكبت "خطأ فادحاً" بعد إنهاء المعاهدة، التي كانت موسكو وواشنطن موقّعتَيْن عليها، ما يُنذر باحتمال بدء سباق تسلّح جديد، متّهمةً السلطات الأميركيّة بخلق "أزمة مستعصية عمليّاً" حول هذه المعاهدة الاستراتيجيّة. وفي شأن اقتراح موسكو تطبيق تجميد لنشر الأسلحة النوويّة الممنوعة بموجب هذا الاتفاق، ألمحت روسيا أيضاً إلى أنّها لا تثق بوعود "حلف شمال الأطلسي". وتعهّدت إدارة ترامب من ناحيتها بعدم نشر صواريخ نوويّة جديدة في أوروبا، لكنّها لم تُعطِ أيّ وعود بخصوص نشر أسلحة تقليديّة.

وفي بروكسل، شدّد "حلف شمال الأطلسي" على أنّه لا يُريد الدخول في سباق تسلّح جديد، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن "قدرته على الردع تبقى موثوقة". وقال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ إن "روسيا نشرت صواريخ منتهكةً معاهدة الأسلحة النوويّة المتوسّطة المدى"، متسائلاً: "كيف يُمكن الوثوق بحسن نواياها؟". وفي إشارة إلى المخاوف التي عُبِّرَ عنها خصوصاً في أوروبا، أكّد ستولتنبرغ أن الدول الغربيّة لا تُريد "سباق تسلّح جديداً". وتابع: "لكنّنا سنعمل بشكل يضمن أن يكون ردعنا مؤكّداً في مواجهة نشر المنظومة الجديدة للصواريخ الروسيّة القادرة على نقل رؤوس نوويّة وضرب مدن أوروبّية خلال بضع دقائق".

من جهته، أسف الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش لأن "العالم سيخسر أداة مهمّة في مواجهة الحرب النوويّة"، مشيراً إلى مخاوف أعرب عنها الأوروبّيون كذلك، على الرغم من أنّهم يتّهمون موسكو بانتهاك الاتفاقيّة.

أوروبّياً، أعربت فرنسا عن «أسفها لعدم التوصّل إلى أيّ حلّ للاحتفاظ» بالمعاهدة، التي اعتبرت باريس أن انهاءها «يزيد مخاطر زعزعة الاستقرار في أوروبا ويُضعف النظام العالمي للحدّ من التسلّح»، في حين أعربت النمسا بدورها عن قلقها إزاء «التهديد» الذي تُواجهه أوروبا إثر انتهاء هذه المعاهدة، داعيةً موسكو وواشنطن إلى الالتزام بطريقة «طوعيّة» بعدم نشر صواريخ متوسّطة المدى في القارة. واعتبرت أنّه «يجب ألّا تُصبح أوروبا مسرحاً جديداً لسباق تسلّح»، لافتةً إلى أن «نهاية معاهدة نزع السلاح النووي تُمثّل تهديداً لأمن أوروبا».

وعلّقت واشنطن مطلع شباط مشاركتها في معاهدة الأسلحة النوويّة المتوسّطة، متّهمةً موسكو بتصنيع صواريخ لا تتوافق مع أحكام المعاهدة، وبدأت مذّاك فترة انتقاليّة من ستة أشهر انتهت أمس. وسمحت معاهدة الصواريخ النوويّة المتوسّطة المدى بمنعها استخدام سلسلة صواريخ ذات مدى متوسّط (500 إلى 5500 كلم)، وبالتخلّص بالتالي من صواريخ "اس اس 20" الروسيّة و"برشينغ" الأميركيّة التي كانت منتشرة في أوروبا.

والمحادثات العديدة التي أجريت بين الطرفين منذ شباط في هذا الإطار، لم تكن مثمرة. ويُهدّد انتهاء معاهدة الأسلحة النوويّة المتوسّطة بإطلاق سباق تسلّح جديد بين القوتَيْن، ويُعيد احياء حقبة الحرب الباردة، حيث حذّر وزير الدفاع الأميركي الجديد مارك إسبر في الآونة الأخيرة من أن واشنطن "ستفعل ما يصبّ في مصلحتها"، بينما توعّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل بنشر صواريخ جديدة، إذ يستفيد الكرملين بشكل أو بآخر من التخلّص من معاهدة يعتبرها تصبّ في مصلحة واشنطن.

وفي السياق ذاته، يتطلّع البنتاغون إلى إمكانيّة تحديث ترسانته الصاروخيّة لمواجهة صعود النفوذ الصيني، الذي يريد إثبات تفوّقه العسكري في آسيا. وأكّد إسبر أن "الجزء الأكبر من الترسانة الصينيّة مؤلّف من صواريخ ذات مدى متوسّط، وعلينا ضمان امتلاكنا القدرات نفسها إذا اضطررنا يوماً ما للدخول في نزاع معهم".

ويبقى اتفاق "نيو ستارت" الاتفاق الثنائي الوحيد الفعّال بين واشنطن وموسكو في مجال الأسلحة النوويّة. وهو ينصّ على أن يبقى عدد أسلحة الترسانتَيْن النوويّتَيْن للبلدَيْن أدنى مما كان عليه في الحرب الباردة، وينتهي مفعوله في العام 2021. ويرى الباحث ألكسندر سافلييف في مقال نشر في المجلس الروسي للشؤون الخارجيّة، أن "فرص تمديد "ستارت" ضعيفة"، معتبراً أنّه "في ظل الظروف الحاليّة لا شيء سيكون قادراً على الحدّ من سباق التسلّح الجديد بين الولايات المتّحدة وروسيا".

معاهدة كبرى

ومثّلت معاهدة الحدّ من الصواريخ النوويّة المتوسّطة المدى (آي ان اف) الموقّعة العام 1987، إحدى المعاهدات الكبرى للحدّ من التسلّح والتي بشّرت آنذاك بنهاية الحرب الباردة. وعند توقيع المعاهدة بين الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان ونظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشيف في واشنطن، وصفت اللحظة بـ"التاريخيّة" وفاتحة عهد جديد في العلاقات بين الكتلتَيْن الشرقيّة والغربيّة.

ومع أنّه كانت أُبرمت معاهدات من قبل مثل اتفاقيّة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجيّة "سالت 1" في 1972 و"سالت 2" في 1979 للحدّ من القاذفات الجديدة للصواريخ الباليستيّة، فإنّ معاهدة الحدّ من الصواريخ النوويّة المتوسّطة المدى، مثلت تعهّداً من القوتَيْن العظميَيْن للمرّة الأولى بتدمير فئة كاملة من الصواريخ النوويّة. ونصّت المعاهدة على تدمير الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر في السنوات الثلاث التالية لدخولها حيّز التنفيذ. ونصّت في الإجمال أيضاً على تدمير 2692 صاروخاً، ودُمّرت قبل 1991، أيّ كلّ الصواريخ المتوسّطة المدى تقريباً، وهي تُشكّل أكثر بقليل من 4 في المئة من مجموع الترسانة النوويّة للبلدَيْن في 1987.

ومن النقاط الجديدة التي وردت في المعاهدة، وضع إجراءات للتحقّق من عمليّات التدمير في كلّ دولة، من قبل مفتّشين من الدولة الأخرى. وبين الصواريخ الأميركيّة التي تقضي المعاهدة بتدميرها، صواريخ "بيرشينغ 1 ايه" و"بيرشينغ 2"، التي كانت محور أزمة الصواريخ الأوروبّية في ثمانينات القرن الماضي. وهذه الأزمة التي تلت نصب الاتحاد السوفياتي الصواريخ النوويّة "اس اس 20" الموجّهة إلى العواصم الأوروبّية، وردّ عليها "حلف شمال الأطلسي" وقتها بنشر صواريخ "بيرشينغ" في أوروبا موجّهة إلى الاتحاد السوفياتي.

وفي 1983، وبعد عام على توليه منصبه، تهجّم ريغان على الاتحاد السوفياتي ووصفه بأنّه "أمبراطوريّة الشرّ". وكانت الحرب الباردة في ذروتها بعد عقد السبعينات الذي ساده بعض الانفراج بين الكتلتَيْن. لكن وصول غورباتشيف إلى السلطة العام 1985 شهد بدء عهد جديد اتّسم باتباع سياسات "البيريسترويكا" (إعادة الهيكلة)، التي شكّلت بداية انفتاح الاتحاد السوفياتي على الحوار مع الولايات المتّحدة. واحتاج الأمر إلى ثلاث قمم بين غورباتشيف وريغان بين 1985 و1987، للتوصّل إلى توقيع معاهدة الحدّ من الصواريخ النوويّة المتوسّطة المدى.


MISS 3