في آخر شهرَين، زادت اعتداءات المتمرّدين الحوثيين فجأةً في مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي يربط البحر الأحمر ببحر العرب، ما دفع أكبر ناقلات الشحن في العالم إلى وقف العبور في قناة السويس لأسابيع عدة، حتى أن عدداً إضافياً منها غيّر مسار سفنه فيما راحت الولايات المتحدة وبريطانيا تطلقان ضربات جوية ضدّ اليمن، وسرعان ما زادت خطورة الوضع القائم.
فيما تقبع السفن في البحر الأبيض المتوسط أو بحر العرب بانتظار تقييم الخيارات المتاحة، تنشغل سفن أخرى بالالتفاف حول المضيق بالكامل. في منتصف شهر كانون الأول، سارعت المملكة العربية السعودية إلى الموافقة على إنشاء «جسر بري» من بحر العرب إلى البحر الأبيض المتوسط للسماح للسلع التي ترسو في موانئ منطقة الخليج بالمرور بذلك الطريق عبر الشاحنات.
أدت الصدمات الجيوسياسية المرتبطة بالإرهاب المستجد في البحر الأحمر والحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا إلى زيادة التكاليف اللوجستية وأسعار المواد الغذائية، فيما يتخبط الاقتصاد العالمي، لا سيما في البلدان النامية، للتعافي من المشكلات المالية التي سببتها أزمة «كورونا».
لا يكمن حل التقلبات المستمرة اليوم في تنظيم قمم متقطعة بين واشنطن وبكين، أو إقامة جلسات علاجية بقيادة «مجموعة السبع»، أو إطلاق نقاشات مطوّلة عبر منظمات مثل «المنتدى الاقتصادي العالمي» أو مؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ. بل يبرز مسار واحد للعالم الغارق في مشكلات انعدام الثقة وأزمات غير متوقعة، وهو يقضي باتخاذ خطوات جماعية بارزة خدمةً للمصلحة العالمية العامة، ما يعني بناء مسارات إضافية لتلبية الطلب على الإمدادات. بعبارة أخرى، لا بدّ من إنشاء سلاسل إمدادات إضافية لمعالجة الصدمات الناشئة.
يبدو أن الصين كانت الدولة الوحيدة التي أدركت هذا الواقع وتصرفت على هذا الأساس منذ سنوات. عندما دعت الصين قادة وممثّلي أكثر من 130 بلداً إلى بكين في تشرين الأول الماضي، تزامناً مع الذكرى العاشرة لإطلاق «مبادرة الحزام والطريق»، استاء عدد كبير من القادة الغربيين من هذه المبادرة باعتبارها خطة مستهدفة لإضعاف النظام الدولي الذي يقوده الغرب عبر وضع الصين في صلب الشبكات التجارية العالمية.
لكن تشير تلك المبادرة عملياً إلى ما يجب أن تفعله جميع البلدان لتحقيق مصلحتها الوطنية، أي بناء أكبر عدد ممكن من المسارات لتلبية الطلب على الإمدادات، ما يسمح بالتصدي للاضطرابات غير المتوقعة وزيادة نفوذ كل بلد وتعزيز ارتباطه بالعالم. يُفترض ألا تبقى أكبر مناطق الاقتصاد العالمي، مثل أميركا الشمالية، وأوروبا، وآسيا، رهينة للأحداث الخارجة عن السيطرة أخيراً.
اليوم، أصبحت منطقة أفريقيا وأوراسيا محور التطورات الديموغرافية والاقتصادية والجيوسياسية حول العالم مجدّداً. تريد كلّ الدول في هذا النظام القائم في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ رفع مستوى العولمة بدل تقليصه. تنتصر القوى الأكثر ترابطاً عبر إقناع البلدان التجارية باستعمال مواقعها الجغرافية بدل اللجوء إلى أماكن أخرى.
تستفيد تلك البلدان من عالمٍ أصبح أكثر اختلاطاً وتعقيداً من دون أن يكون منقسماً. خلال قمة «مجموعة العشرين»، اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنشاء ممر ترانزيت تجاري آخر يمتد من ميناء العراق الجنوبي في البصرة ويمر بتركيا نحو أوروبا.
لم يعد الديبلوماسيون والمحللون الغربيون ينتقدون «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، لكنهم لا يفهمون بالكامل بعد سياقها الكامن. اتخذت هذه المبادرة طابعاً دفاعيّاً، لا هجوميّاً، في البداية. وأصبحت الصين بمثابة مصنع العالم، ما يعني أن تحتاج إلى كميات هائلة من واردات الطاقة والمواد الخام لدعم قاعدتها الصناعية المتضخمة، لكنها بقيت ضعيفة في نقاط الاختناق التي تزعزع سلاسل الإمدادات العالمية اليوم. في الوقت نفسه، سعت الصين إلى إيجاد أسواق قادرة على استيعاب فائض إنتاجها الهائل للفولاذ وسلع أخرى.
في ظل زيادة الإنفاق الدفاعي، وصادرات الأسلحة، والروابط الاستراتيجية بين الصين وأنظمة فاسدة وعدد من حلفاء واشنطن على حد سواء، باتت «مبادرة الحزام والطريق» تُعتبر عنصراً أساسياً من استراتيجية الصين الكبرى، فأصبحت أشبه بمخطط للهيمنة على العالم. لكن تبقى التطورات الجيوسياسية متقلّبة. أثارت الصين الشكوك سريعاً بسبب توغلاتها العدائية على طول حدودها مع الهند وفي بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن شروطها المالية المُنهِكة التي يضعها بعض النقاد في خانة «ديبلوماسية فخ الديون».
ثم بدأت القوى الغربية والحليفة تطبّق تدابير مضادة. في المجال العسكري، كثّف التحالف الرباعي الذي يشمل أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة، تعاونه البحري في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وزاد بيع الأسلحة إلى دول ساحلية في بحر الصين الجنوبي، مثل فيتنام، كما أنه دعم الفيليبين لتحصين الجزر، مثلما فعلت الصين عبر خطط استصلاح الأراضي.
على مستوى البنى التحتية والتجارة، تكثر البرامج التي تهدف إلى إقناع الدول باقتراض المال بشروط ميسّرة من أطراف متعدّدة الجنسيات بدل اللجوء إلى المقرضين الصينيين، أو التواصل مع الشركات الغربية (مثل «إريكسون» السويدية) بدل الشركات الصينية (مثل «هواوي») لتركيب شبكات الجيل الخامس أو كابلات الإنترنت. تشمل تلك البرامج قانون المنافسة الاستراتيجية وقانون الرقائق والعلوم في الولايات المتحدة، وشركة تمويل التنمية الدولية الأميركية، و»مبادرة البوابة العالمية» بقيادة الاتحاد الأوروبي، و»ممرات الترابط» بقيادة اليابان والهند، ومبادرة «مرونة سلاسل الإمدادات متعددة الأطراف»، ومبادرة «إعادة بناء عالم أفضل» في «مجموعة السبع».
بدأ الغرب يدرك أهمية تنفيذ الوعود بطريقة عملية. لا يزال السباق المحتدم في مجال البنى التحتية مستمرّاً اليوم. تستحق الصين الإشادة لأنها زادت أهمية البنى التحتية في الأجندة العالمية بعد إهمالها من القوى الغربية طوال عقود. لكن كلما زادت استثمارات العالم الجماعية في البنى التحتية الأساسية، يتراجع احتمال اللجوء إلى الصين. ربما تأخّر الغرب في الوصول إلى أحدث جولة من هذه «اللعبة الكبرى»، لكنه بدأ ينجح منذ الآن في فرض سيطرته.
قد يعتبر البعض مبادرات الصين التي تقابلها المبادرات الغربية أشبه بلعبة «لا غالب ولا مغلوب»، لكن تبقى البنى التحتية مثل الموانئ وشبكات الكهرباء غير قابلة للاستبعاد أو التنافس في معظم الحالات، ما يعني أنها معرّضة لأي استخدام تجاري أو توفر خدمات متساوية لجميع المستخدمين. يبدو أن كلّ المشاريع المتنافِسة في مجالات خطوط الأنابيب، وشبكات الكهرباء، وكابلات الإنترنت، تدعم عن غير قصد المشروع الأكبر الذي يقضي بتحويل العالم إلى نظام مترابط من سلاسل الإمدادات.
إنها أهم رسالة في العالم المضطرب اليوم. تسمح مسارات إضافية لنقل الإمدادات بتلبية الطلب المتزايد ومقاومة صدمات التضخم. يجب أن نزيد إنتاج المواد الغذائية وأشباه الموصلات، ونعالج المزيد من المعادن الأرضية النادرة في عدد إضافي من البلدان، ونحرص على تبديد أي نقطة ضعف تحول دون تنقّل السلع حول العالم.
قد يصبح الاقتصاد العالمي أكثر قدرة على مقاومة الصدمات عبر نقل الشحن تلقائيّاً من قناة السويس إلى سكك الحديد في أوراسيا، أو عبر تسريع العمليات في الممر البحري للقطب الشمالي. انطلاقاً من هذه المعطيات، يبدو العالم المترابط بفضل قوة بناه التحتية محبّذاً وأفضل من النظام الراهن. إنه عامل ضروري أيضاً لصمود الحضارات تزامناً مع تسارع تداعيات التغيّر المناخي.
من المتوقع أن تؤدي الضغوط المناخية المستجدة إلى هجرة مليار شخص أو أكثر خلال هذا القرن، فتنتقل الشعوب من السواحل إلى المناطق الداخلية، ومن المناطق المنخفضة إلى أماكن أعلى مستوى، ومن المناخات الساخنة إلى المناطق الأكثر برودة. بدأنا نشهد منذ الآن نشوء مسارات جديدة وغير مسبوقة لحركة الهجرة المتوسعة، فينتقل الناس من جنوب آسيا وجنوب شرقها إلى أوروبا وآسيا الوسطى. وبما أن معظم سكان العالم يقيمون على اليابسة في أوراسيا، من الضروري أن يستبق المعنيون نزعة الناس المتوقعة للانتقال إلى مواقع جغرافية أفضل من الناحية المناخية في أنحاء شرق أوروبا وآسيا الوسطى، ويجب أن يبنوا أيضاً البنى التحتية اللازمة في المدن لتنفيذ مشاريع الإسكان، والنقل، والرعاية الصحية، وبناء منشآت أخرى.
لا يزال جزء مفرط من شبكات خطوط أنابيب النفط القديمة قائماً مقابل تراجع الشبكات الجديدة (مثل محطات تحلية المياه، ومزارع الطاقة الشمسية، وأماكن السكن التي تكون مقبولة الكلفة وتوفر الطاقة، ومراكز الزراعة المائية الغذائية). تشكّل هذه الاستثمارات جزءاً من مشروع عالمي ضخم لإعادة التدوير، وهو قادر على تحريك الاقتصاد العالمي: توفر البنى التحتية فرص العمل، وتزيد الإنتاجية، وتعزز النمو في مجالات الاستهلاك والتجارة، وتجذب المواهب والرساميل.
كان بناء المستوطنات التي تُحدد معالم الحضارة المعاصرة والربط بينها محور تاريخ البشرية في آخر عشرة آلاف سنة، وتُعتبر طبقات البنى التحتية المتراكمة أحدث إثبات على أهمية السيطرة على تلك البنى لتغيير الوضع وتجنّب الجمود على المدى الطويل. سيكون مصير البنى التحتية مشابهاً للعولمة التي ترتكز عليها، وهو يتوقف مجدّداً على زيادة الشبكات والإمدادات.