شفيق سيدي

لعنة جِيل أم بلدٌ ملعون؟

11 تموز 2020

02 : 00

"جِئتُ لا أعلم من أين ولكنّي أتيت"، هذه القصيدة الوجودية لإيليا أبو ماضي تُعبّر عن الكثير من هواجس الجنس البشري منذ بداية الوجود. لكنّها ناقصة وغير مُكتملة بالنسبة لي، وللعديد من أبناء الجيل الذي أنتمي اليه.

السؤال المشروع هو: لِمَ هُنا؟ لِمَ في هذا الزمن؟ ولِمَ هذا القصاص؟

لم ولن أُحبّ هذا البلد الذي وُلِدتُ فيه.

لم ولن أفتخر يوماً بانتمائي.

لم ولن أغفر لهذا الوطن ما فعله بي وبأبناء جيلي.

فكرة الوطن غير مُقنعة بالأساس، وإيديولوجية الإنتماء الى بقعة جغرافية مُعيّنة مُناهضة للطبيعة البشرية، وهي وليدة التّطبع والخوف الأزلي والمُتراكم من المجهول ومن الآخر، منذ أن قَتَل قايين أخاه هابيل (بحسب الاسطورة).

لست بِصدد مناقشة مسألة سوسيولوجية أو جيوبوليتيكية ولكن....

بالإضافة إلى أنّ التأقلم مع الوجود قصّة لا تنتهي حتى النَفس الأخير، فإنّه من الصعب جداً أن تعيش في مكان، وأن تكون أحلامك في مكان آخر، خصوصاً ومع مرور الوقت تتأكّد حتمية موت الأحلام، ومعها أجزاء من روحك.

في حرب 1967 كان الوجود، في حرب 1975 وحتى 1991 كانت الطفولة والمُراهقة وبداية الشباب. الخوف وعدم القُدرة على مُقاربة الأحلام كانا الزاد اليومي، وكان التقوقع في نفس المكان هو النتيجة الحتمية.

قُصر النظر منعني من استشراف المستقبل السيّىء. مدفوعاً – عن جهل أو غباء – بعِّزة النفس، وعدم القبول بالتذلّل الى التعلم الأكاديمي، بدلاً من الهجرة الى حيث تنظر بصيرتي. كذلك عدم الجرأة على قطع حبل السرّة مع الأمكنة والناس، وعدم الثقة بأنّ الحياة يُمكن أن تُعطي فرصة لِمن يتجرّأ على التمّرد، دفعاني الى المزيد من التحفّظ على مُلاقاة الحياة في منتصف الطريق.

الحقيقة هي أنّي كنتُ جباناً ولم أَجرؤ. رضيت وخدعت نفسي، ومخزون الخوف أجبرني على السير على الهامش، كمن ينتظر أن يتمّ تسريع أحداث الحياة، وأن لا يتوقّف القطار عند أي محطة، غير آبهٍ بما يفوتني من التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرح.

عَمِلت وبنيت الأمور التي تفرضها الحياة شيئاً فشيئاً من دون مُواربة. وكنت كلّما شعرت بأنّ الخناق يضيق، وتتضاءل فُرص الحياة، أُعزّز مقاومتي بشهادة علمية لا تنفع بشيء في هذا البلد، غير إعطائي حقنة تعامي عن الحقيقة المرّة. توالت الأزمات والحروب الصغيرة (1996 و 2006 و...) والخديعة مستمرّة.

لم أُحقّق النجاح المادي واكتفيت بـ"السترة" و"الحمدلله"، طالما أنّ كرامتي محفوظة ولا أحتاج إلى أي كان، مُتجاهلاً بأنّ هذه الكرامة يُمكن أن تُمسَح بها الأرض، إذا لم يعجب شكلي أحد القبضايات، أو أحد الناجحين في الحياة، أو إذا تأبّط شراً منّي أحد المُتزلّفين والوصوليين.

لم أنتبه ولم أعرف كيف مرّت الأيام وأصبحتُ حيث أنا.

علّمت أجيالاً ونسيت أسماء كثيرة، ولا أذكر سوى القليل القليل. حاولت، ولا أعرف إذا نجحت في نقل جزء من المعرفة إلى أحد ما، لأن ّمعركتي الحقيقية كانت دائماً هي كيفية حمل "السلّم" وإدارة الصراع العنيد بين القناعات والصدق من جهة، وبين الحقيقة "البلدية" من جهة أخرى. بعد هذه الصفعة التي أعيشها ويعيشها الكثيرون – وربّما أنت أيضاً ـ صعب جداً بأن تتأكّد، وبعد مرور كلّ هذا الوقت، من أنّ ما حاولت تحصينه كلّ حياتك أصبح في الحضيض غصباً عنك تماماً، مثلما أنّك لبناني رُغماً عنك، وليس بالإختيار.

كان لهذا الثمن أن يكون زهيداً، لو اقتنعت من الأول بأنّ هذا البلد ليس للمُتعلّمين أو أصحاب الفكر الحرّ، وبأنه وطن غريزة البقاء على قيد الحياة بشكلها البدائي.

كان لهذه المحنة أن تمرّ بأقلّ ضرر، لو فهمت من الأساس بأن "الشطارة الفينيقية" هي الأصل، والباقي "تقليد"، وبأنّك مهما حاولت فإنك ملعون منذ البداية.

كان لهذه النهاية أن تكون أقلّ مأسوية، لو ارتضيت بأن يكون أصحاب السلطان الروحي هم من يملكون مفتاح الحلّ والربط.

كان لهذا المصير الأسود الذي يقترب بسرعة أن يكون أقلّ سواداً، لو علمت منذ البداية بأنّ الحياة في هذا البلد لن تُعطيك أي فرصة، وبأنّه كان مُمكناً بأن تتساهل معك قليلاً، لو لم تكُن جباناً.

كان لهذا الحزن المُتراكم أن يكون مقبولاً، لو لم تُدرك بأنّك كنت أحمقَ وساذجاً عندما راهنتَ بأنّك تُبلي بلاءً حسناً.

كان لهذا الخوف أن يكون أقلّ رُعباً، لو أنّك تنّبهتَ بأن سرّ بقائك حتى الآن هو مجرّد "ضربة حظ"، وليس تذاكياً من قِبلك، وبأنّ مرورك "بين النقاط" هو مجرّد "صدفة".

ولكن ما يُعزّيني فقط هو بأنّني أَصبتُ بشيء واحد، وهو أنّني لم أُنجب أي كائن بشري ليكون وقوداً لمِحرقة هذه البؤرة الجغرافية، أو ليكون رهينة أي لعنة زمنية وروحية مُتأصّلة بهذه الخربة.

لا أعرف شيئاً بعدما تيقّنتُ بأنّي لا شيء، ولا أُريد أن أعرِف شيئاً، بما أنّ الزمن لن يعود إلى الوراء، وبأنّ الإستفادة من الزمن المُتبقّي أصبحت مستحيلة.

جِئتُ لا أعلم من أين، ولكنّني أتيت الى هنا.


MISS 3