يوسف مرتضى

حال لبنان من حال العالم: توازن مفقود وأزمات مستمرة

14 شباط 2024

02 : 00

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انهارت الثنائية القطبية وتفرّدت أميركا بقيادة العالم. ولكن لم يطل الزمن حتى برزت قوى صاعدة اقتصادياً وعسكرياً أضعفت، لا بل شلّت قدرة أميركا على التفرّد، وانتظمت في تكتل دولي جديد هو «البريكس»، تدعو إلى عالم متعدد الأقطاب في مواجهة الأحادية القطبية.

تتالت المواجهات والحروب في الأعوام الماضية على أكثر من صعيد وفي أكثر من منطقة في العالم، حيث بات السلم العالمي مهدداً باحتمال نشوب حرب كونية، من دون أن تتمكن أي من القوى الكبرى من حسم أي معركة أو حرب لمصلحتها. وفي ذات الوقت شُلّت قدرة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة في القيام بأي دور من شأنه إطفاء تلك الحروب أو الحد من مخاطرها. وأكثر ما يؤشر إلى ذلك هو عجز هذه المنظمة الدولية الأم عن وقف حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المدعومة من الغربَيْن الأميركي والأوروبي للشعب الفلسطيني منذ أربعة أشهر ونيّف.

وهكذا يكون العالم قد دخل في مرحلة خطيرة من فقدان التوازن وبحالة فوضى لا ضابط لها إلا توازن رعب القوة، ببنما يعيش العالم في كل لحظة مع انتشار الأساطيل والقواعد العسكرية على البر وفي البحار، خطر الإنزلاق نحو حرب كونية لن تبقي ولن تذر.

ولرصد مسار ومصير تلك الأزمات والحروب من أوكرانيا، إلى فلسطين والسودان وبحر الصين... لا بد من تتبع عملية تطور حالة التوازن الدولي وصيغة المنظومة الدولية التي سوف تنبثق منها والتي ستتولى إدارة هذا العالم المضطرب بعدما انتهت على ما يبدو صلاحية الأمم المتحدة بنظامها القائم الذي أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانية.

وكما هو معلوم، ما إن وضعت الحرب الباردة أوزارها بسقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وزوال الثنائية القطبية، حتى برزت توجهات ثلاثة في الدولة الأميركية العميقة حول كيفية التعاطي مع إدارة العالم:

الأول: هو في أن تكون الولايات المتحدة القوة القائدة المهيمنة، وهذا يستدعي منع أي قوة أخرى من منافستها حتى لو كانت من الدول الصديقة، أي ما أطلق عليه نظام القطب الواحد بقيادة أميركا. والثاني: هو في إقامة توازن للقوى يحول دون ظهور قوة مهيمنة جديدة في نظام تشارك فيه دول مثل روسيا والصين واليابان وألمانيا، وقد تنضم إليها دول أخرى مثل الهند، والبرازيل وجنوب أفريقيا، أي النظام العالمي المتعدد الأقطاب. أما الاتجاه الثالث: فهو الانكفاء على الذات، تحت شعار أميركا أولاً.

اختارت أميركا الاتجاه الأول فاحتوت روسيا اليلتسينية، ورعت حرب تفكيك يوغوسلافيا، وتصدت لصعود اليورو، وأطلقت الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، ثم غرقت في حربي أفغانستان والعراق... غير أنّ انفجار الأزمة المالية العالمية انطلاقاً من مركزها في واشنطن والتي انكشفت بإفلاس «ليمان براذر»، الذي ترافق مع بداية صعود روسيا البوتينية في أوسيتيا الجنوبية ضد جورجيا، والنمو المضطرد للاقتصاد الصيني المنافس القوي للاقتصاد الأميركي، كشفت نقاط ضعف، لا بل عجز أميركا عن استمرار تفرّدها بقيادة العالم .

ومع تولي ترامب الرئاسة في أميركا في العام 2016 برزت توجهات لإدارته تختلف عن توجهات الإدارات السابقة، وأصبحت أقرب إلى فكرة الإنكفاء على الذات بانتهاج خيار «أميركا أولاً»، ما بدأ يمهّد لصيغة عالم متعدد الأقطاب، ومع توليه الرئاسة بعد ترامب، أطلق بايدن العنان مجدداً لخيار «أميركا قيادة العالم»، أي لنظام القطب الواحد، فاستدرج روسيا إلى الحرب في أوكرانيا بهدف استنزافها وتفكيكها، وفك تحالفها مع الصين، وإجهاض بنية مجموعة «البريكس».

وهكذا أصبحت حرب روسيا في أوكرانيا أول حرب ساخنة لعالم متعدد الأقطاب ضد عالم أحادي القطب. وإلى جانبها اشتعلت جبهة ثانية على أرض غزة في حرب العالمين الأحادي القطب والمتعدد الأقطاب. ويترافق ذلك مع تزايد التوترات بالنسبة للولايات المتحدة في أكثر من مكان في الشرق الأوسط كل يوم، في سوريا والعراق والبحر الأحمر، حيث بات من المؤكد أنّ الحرب في أوكرانيا سوف تستمر، ويهدد استمرار الحرب على غزة وخاصة في رفح وارتكاب المزيد من المجازر فيها باشتعال منطقة الشرق الأوسط برمتها رغم المحاولات المتكررة لتدوير الزوايا بين أميركا وإيران.

العالم أمام احتمالين

ويجب أن لا نُغفل أيضاً تفاقم الصراع حول تايوان، حيث دفعت الولايات المتحدة بالمرشح المناهض للصين «لاي تشينغدي» في الانتخابات، واستمرار الثورات المناهضة للاستعمار في أفريقيا، وتصعيد التناقضات في أميركا اللاتينية إلى مرحلة ساخنة. وفي الغرب نفسه، تتفاقم الأزمة بوتيرة متسارعة. وهناك انتخابات في الولايات المتحدة هذا العام حيث سيواجه أنصار العولمة « الحزب الديمقراطي» موجة قوية من الجمهوريين. لذلك سيكون العالم أمام احتمالين بانتظار تشكّل إدارة أميركية جديدة في الربع الأول من العام 2025:

الاحتمال الأول، أن تغامر إدارة بايدن مع القوى المستتبعة لها في أوروبا وآسيا للي ذراع قوى الخصم في أوكرانيا أو في جبهات آخرى لاستعادة دورها القيادي ما يزيد من حظوظ الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن غير المستبعد أن يحمل تبني هذا الاحتمال وخوض غماره مخاطر حرب عالمية شاملة! فهل يكون البديل عن ذلك استبدال بايدن بمرشح ديمقراطي منافساً أفضل لترامب المتقدم على بايدن بفارق كبير؟

الاحتمال الثاني: أن تراوح الأمور على ما هي عليه، فتعلّق الأزمات وتبرّد الجبهات ريثما تحصل الانتخابات الرئاسية في أميركا، لنكون مجدداً حسب نتيجتها، إمّا أمام متابعة خيار أميركا قيادة العالم اذا فاز الديمقراطيون، أو أمام تبني خيار أميركا أولاً بفوز ترامب، ويؤسس ذلك لعالم جديد متعدد الأقطاب.

المبادرة لا شك أنها لا تزال في يد أميركا رغم ضعفها، حيث أنّ الجبهة المواجهة «بريكس»، لا رأس لها، وهي ليست جبهة سياسية متراصة وفق استراتيجية محددة بقدر ما هي لقاء تقاطع مصالح. ولا أبالغ إن قلت إنّ المشهد الدولي كثير الشبه بالمشهد اللبناني، حيث التوازن المفقود المعيق لإيجاد حلول للأزمات. «حزب الله» قاطرة الممانعة رغم قوته لا يملك القدرة على فرض خياراته في السياسة الداخلية، كما أميركا في الساحة الدولية، والمعارضات في مواجهته مشتتة وبلا رأس، مثل جماعة البريكس، يجتمعون في قاطرة بلا محرّك.

الخلاصة، العام ٢٠٢٤ هو عام ديمومة الأزمات لا حلها، بانتظار مصير القاطرة الأميركية. وانخراط القوى المحلية في لبنان أو في غيره من بلدان المنطقة في الأحلاف الإقليمية والدولية، يمنع إمكانية تفلّتها من المعادلات الدولية.

MISS 3