أحمد الأيوبي

إستقلالية دار الفتوى: الضرورة والواجب والمخارج المُتاحة

16 شباط 2024

02 : 00

دار الفتوى (فضل عيتاني)

إرتبط موقع الإفتاء تاريخياً بالسلطة الإسلامية الحاكمة وكان آخرها الخلافة العثمانية التي كرّست لبيروت مفتياً في العام 1909 بفرمان سلطاني قضى بتنصيب الشيخ مصطفى نجا مفتياً لبيروت. واستمرّ في منصبه بعد سقوط الخلافة وسيطرة الانتداب الفرنسي على لبنان مترئساً دار الأيتام الإسلامية والمجلس الإداري لأوقاف بيروت، ومساهماً في بناء الكثير من المدارس العلمية والدينية والمساجد، وفي العام 1932 انتُخِب الشيخ محمد توفيق عمر خالد خلفاً للمفتي نجا ثمّ صدر المرسوم رقم 291 تاريخ 9/7/1932 يتضمن أنّ مفتي بيروت يلقّب منذ الآن فصاعداً بمفتي الجمهورية اللبنانية، لتكون دار الفتوى جزءاً من ملاك رئاسة الوزراء.

شهد هذا المسار تقييداً متدرِّجاً لسلطة الإفتاء، فهي كانت سلطة مستقلّة في ظل الدولة العثمانية ثم تحوّلت إلى مؤسّسة ملحقة برئاسة الحكومة يتلقى المنضوون تحتها رواتبهم من الدولة اللبنانية، وهذا رتّب عبر التقادم تراجعاً في سلطتها المستقلة وزادت السطوة السياسية عليها باستثناء محطات مشرقة كان أبرزها زمن المفتي الشهيد حسن خالد الذي تمكّن من فرض معادلة الاستقلالية للدار على مستوى القيادات السنية واللبنانية على حدٍّ سواء.

مقاربةٌ أخرى تبرز في هذا السياق، وهي المقارنة بين وضع دار الفتوى الإداري والمالي وتالياً السياسي (إصطلاحاً) وبين البطريركية المارونية ذات الامتداد العابر للحدود (أنطاكيا وسائر المشرق) وذات الاستقلالية المالية التامة، بأوقافها وميزانياتها التي تتمتع بالثبات والاستقلالية التامة في القرار والتمويل عن أيّ سلطة في الدولة.

كان من نتائج ضمور الدور المرجعي لدار الفتوى في ظلّ السطوة السورية خصوصاً خضوعها لتعديلات في أنظتمها وهيئتها الناخبة، ثم تقلّصت أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري من قرابة الـ 500 إلى 112 عضواً لتصبح هيئة محدودة عددياً ومناطقياً واختصاصاً، بحيث حُرِم أغلب المشايخ من انتخاب مفتيّهم ومجالسهم، بينما بات أشخاص من خارج الدائرة الدينية ومنهم مناوئون لها أعضاء في هذه المجالس.

إنحدرت أوضاع دار الفتوى المالية في العقد الأخير بشكل متسارع وخطر بحيث أثّر على أوضاع العاملين في مؤسساتها وهذا ليس سراً، بل إنّه استدعى تدخّل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت... لتقديم الهبات لصالح المشايخ والعاملين في تلك المؤسسات خاصة على المستوى الصحي والاجتماعي، وهذا ما حاول مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان تحريكه خلال زيارته الأخيرة إلى قطر.

وفي هذه الأجواء سُجّلت مبادرة للنائب فؤاد مخزومي تمثّلت بإنشاء صندوق صحي مموّل من «مؤسسة مخزومي» بهدف المساعدة وتوفير الخدمة الطبية للعلماء والمشايخ في بيروت، على أن تتوسّع هذه المبادرة تدريجياً على سائر المناطق من دون تمييز، مع الإشارة إلى أن المستفيدين من صندوق الدعم الصحي هم العلماء وزوجاتهم وأولادهم القاصرون عبر عدد من الخدمات الصحية التي تضم المعاينات الطبية والفحوصات المخبرية وخدمات التصوير الشعاعي، والصوتي والطبقي والمغناطيسي وغيرها، إضافة إلى صحة الفم والأسنان والأدوية من خلال الاستفادة من الدواء البديل للأمراض المزمنة مجاناً حسب البرنامج الوطني لوزارة الصحة العامة بحسب توفره في المركز الصحي التابع لمؤسسة مخزومي، عدا عن المعاينات خاصة بالأطفال والنساء.

وفي استطلاعٍ لأوضاع الشرائح المستهدفة من هذه المبادرة يتضح أنّها تأتي لتسدّ ثغرة كبيرة ومؤلمة في حياة العاملين في دار الفتوى وهم يقاسون الأمرَّين في سبيل تأمين أوضاعهم الصحية، لكنّ هذه المبادرة، على أهميتها لا تكفي كلّ حاجات المؤسسة الدينية حتى لو شملتهم في كل لبنان، فالشأن الصحي أساس لكنّ المأوى والمأكل والملبس والتعليم ضرورات لا يمكن تجاوزها، لذلك يعود طرحٌ قديم جديد وهو ضرورة أن يبادر مفتي الجمهورية إلى دعوة قيادات الطائفة السنية ومتموليها من جميع المناطق والاتجاهات لوضع خطة مالية خمسية تؤمّن الاستقرار والاستمرار لدار الفتوى، حيث يتضمّن هذا الطرح تقديم خمسين من المتمولين مبلغ مليون دولار لكلٍ منهم على خمس سنوات، بما يسمح بتوفير الإمكانات لتطوير مؤسسات دار الفتوى وترشيقها وحسن استثمار أوقافها، والأهمّ تحريرها من السلطة السياسية لرئاسة الحكومة التي يتعاقب عليها أشخاص متفاوتو القدرات والإمكانات.

تعتقد أغلب النّخب السنية أنّه لا يصحّ أن تبقى دار الفتوى في حالة تبعيّة لأيّ جهة سياسية حتى لو كانت رئاسة الوزراء، ولا لأيّ جهة سياسية مهما علا كعبُها فهو انحياز وتفضيل لأحد الأبناء على سواه وهذا غير منصِف، كما تحتاج إلى التحرّر في أوقافها وإدارتها المالية لأنّ تجربة السطوة السياسية على الدار أنتجت تصحّراً واضمحلالاً في الإمكانات والدور، واعتداءات مفتوحة على الأوقاف، فيما يعتبر هؤلاء النخب أنّ الاستقلالية لدى بكركي تؤمِّن لها استقلالية الموقف والقرار، ولعلّ التحوّلات التي يشهدها العالم، وتطوّر الأوقاف في العالم العربي والإسلامي يكون نموذجاً لدخول مؤسسات دار الفتوى مراحل التطوير والتحديث في الخطاب والتفاعل الوطني وفي تعزيز الشراكة الوطنية، لأنّ الاستمرار كما هو المسار الراهن يؤذن بانهيارٍ وشيك يصعب تداركه إذا لم تتحرّك إرادة الإصلاح فوراً.

MISS 3