دانيال بليتكا

بايدن... هل يملك أي سياسة للتعامل مع روسيا؟

17 شباط 2024

02 : 00

أصبحت الانتخابات الرئاسية الروسية على بُعد أسابيع. وما لم يحقق أي مرشّح يعارض الحرب فوزاً مفاجئاً، تبدو النتيجة محسومة: 6 سنوات أخرى من عهد فلاديمير بوتين. تطرح إعادة انتخاب الرجل الذي اعتبره الرئيس الأميركي جو بايدن «ديكتاتوراً قاتلاً» أسئلة منطقية حول طبيعة السياسة التي تطبّقها إدارة بايدن تجاه روسيا. هل تريد الولايات المتحدة إرساء الديموقراطية في روسيا؟ وهل يتمنى بايدن تنحي بوتين؟ وهل سينهار التحالف بين روسيا وجمهورية الصين الشعبية من دون بوتين؟ وهل سيتلاشى المحور الجديد بين كوريا الشمالية، وإيران، والصين، وروسيا؟

لا أحد يعرف الأجوبة على هذه الأسئلة لأن إدارة بايدن تتكتّم بشكلٍ غريب حول موقفها من القيادة الروسية والعلاقة التي تريد أن تجمعها مع روسيا عموماً.

ما هي طبيعة سياسة بايدن تجاه روسيا وهل تطبّق إدارته أي مقاربة للتعامل مع هذا البلد أصلاً؟ لا وجود لهذه السياسة على ما يبدو.

قد يكون غياب السياسات المرتبطة بروسيا غريباً، لكن لطالما كان غيابها المعيار السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة تجاهلت الشيوعية العالمية، أو الدول الأسيرة، أو تهديدات الاتحاد السوفياتي، بل إنها كانت تسعى في معظم مراحل الحرب الباردة إلى ترسيخ مفهوم الاحتواء الذي طرحه جورج كينان بدل تدمير اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية. كان الاحتواء يُلمِح إلى ضرورة السيطرة على المشكلة السوفياتية، وكانت أي سياسة حقيقية تجاه روسيا لتتجاوز حدود التصدي لعدائية الكرملين وتصل إلى حد تخيّل مستقبل مختلف عن الاستبداد الشيوعي.

طوال عقود، ركّزت السياسة الأميركية على التنافس مع السوفيات بدل تحقيق نتيجة معيّنة مع خلفاء الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين. لم يكن ذلك الموقف غريباً جداً، لا سيما بعد خوض حربَين عالميتَين أسفرتا عن مقتل وإصابة عشرات ملايين الناس. لو أراد السوفيات متابعة سحق شعوبهم أو حتى قتلها، كانت هذه المسألة لتبقى خاصة بالكرملين. لا يمكن إيجاد ولو تصريح معاصر واحد من أي زعيم أميركي حول 30 مليون شخص قُتِلوا على يد ستالين.

وحّدت الولايات المتحدة وأوروبا صفوفها تحت مظلة حلف «الناتو» الناشئ، وركّزتا بشكلٍ أساسي على مصير الدول الأسيرة في الاتحاد السوفياتي، في أوروبا الشرقية والوسطى. لم يذهب حلف «الناتو» إلى حد الدفاع عن الهنغاريين في العام 1956 أو التشيكيين في العام 1968، حين بذلوا جهوداً كبرى للتخلص من أسيادهم السوفيات، لكنه كان مهتماً بمصيرهم على الأقل.

في الوقت نفسه، انشغل الغرب بكبح انتشار الشيوعية السوفياتية والقوى التابعة لها. نتيجةً لذلك، تورّطت الولايات المتحدة في صراع عسكري مباشر في شبه الجزيرة الكورية وفيتنام، فيما انخرطت معظم دول العالم الأخرى في بنية الحرب الباردة التي كانت ثنائية القطب. شملت المعركة ضد الاتحاد السوفياتي عناصر إيديولوجية واضحة (الحرية في وجه الاستبداد، والديموقراطية في وجه الشيوعية)، لكن بقي أساس السياسة الأميركية استراتيجياً. لم تكن الحرب الباردة في أول 40 سنة على نشوئها تتعلق بالقيم بقدر ما كانت تتمحور حول حسابات باردة تهدف إلى كبح المدّ الشيوعي.

منذ عهد بيل كلينتون، استمر النمط نفسه: بقيت الآمال كبيرة بدمج روسيا مع المجتمع الدولي ثم «إعادة ضبط العلاقات» لاسترجاع الوضع السابق. تخلى الرئيس كلينتون عن سياسته الأولية التي كانت تتمحور حول بوريس يلتسين للتعامل مع روسيا، بما في ذلك وعود بعدم توسيع نطاق «الناتو»، لكن أجبرته الظروف وخيارات روسيا بعد فترة قصيرة على توسيع الحلف، وفرض العقوبات على كيانات روسية، وقصف حليفة موسكو، صربيا.

نجح الرئيس جورج بوش الابن من جهته في التقرب من بوتين، فطوّر معه صداقة قوية لدرجة أن تُسهّل موسكو، بعد هجوم 11 أيلول 2001، إعادة تزويد القوات الأميركية بالإمدادات في أفغانستان. لكن تزامنت نهاية عهد بوش مع خيبة أمل بارزة، فقد انسحب الرئيس من اتفاق تعاون نووي مع روسيا بسبب التدخل العسكري في إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليَين في جورجيا.

وفي عهد الرئيس باراك أوباما، بدأت مقاربته تجاه روسيا بطريقة محرجة، حين اقترحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إعادة ضبط العلاقات الثنائية على نظيرها الروسي سيرغي لافروف، قبل أن ينتهي عهده بفرض عقوبات صارمة على روسيا بسبب إقدامها على غزو شبه جزيرة القرم وضمّها إليها في العام 2014.

وحتى الرئيس دونالد ترامب، الذي دخل إلى البيت الأبيض وهو يحمل آمالاً وأحلاماً بانفراج العلاقات الثنائية، عاد وفرض نظاماً صارماً من العقوبات ضد بوتين في نهاية المطاف، مع أن تصريحات الرئيس السابق في الفترة الأخيرة قد تشير إلى تحوّل جذري في مسار الولايات المتحدة خلال المراحل المقبلة. لكن نجح ترامب خلال ولايته الرئاسية في مضايقة أعضاء «الناتو» لدفعهم إلى زيادة ميزانيات الدفاع، كما أنه خفّض نطاق الوجود الديبلوماسي الروسي في الولايات المتحدة بعد تورّط الكرملين في تسميم العميل الروسي المزدوج والمنشق سيرغي سكريبال في العام 2018. نتيجةً لذلك، تدهورت العلاقات الثنائية بدرجة ملحوظة، ثمّ زادت سوءاً منذ انتخاب بايدن وإقدام بوتين على تنفيذ غزو شامل في أوكرانيا.

لا يمكن اعتبار الأحداث التاريخية بعد حقبة الحرب الباردة مثالاً على النوايا الحسنة، والسياسات الفاعلة، والنتائج المؤسفة.

من الواضح أن جميع الرؤساء الأميركيين، منذ عهد وودرو ويلسون، أرادوا أن تنشأ نسخة حرّة وديموقراطية من البلد، أو نسخة طبيعية من روسيا التي تتخلّى عن طموحاتها الإمبريالية على الأقل. لكن لا يمكن أن ترتكز أي سياسة خارجية على الأمل بكل بساطة. كذلك، لا ترتبط السياسات المعمول بها منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار مفهوم الدمار المتبادل المؤكد بسياسات روسيا الداخلية بقدر ما تتعلق بعلاقاتها الخارجية. وحتى مقاربة إعادة ضبط العلاقات في عهد أوباما بدت أكثر تركيزاً على «المواضيع المهمة التي تستحق النقاش مع الروس» وأقل انشغالاً بمستقبل روسيا بحد ذاتها.

تتعلق المشكلة الحقيقية بتداخل وضع روسيا الداخلي مع سياستها الخارجية. لطالما تأثرت خيارات الكرملين برؤية الحكام الديكتاتوريين الراغبين في السيطرة على العالم أو استرجاع عظمة الإمبراطورية الروسية الغابرة، ويترافق هذا الوضع دوماً مع تداعيات كارثية على العالم أجمع. من دون تطبيق مقاربة محددة للتعامل مع روسيا، ستبقى السياسة الأميركية تفاعلية بطبيعتها، فتتكل على تعديلات تكتيكية دائمة للسيطرة على المشكلة بكل بساطة.

يميل الانعزاليون والواقعيون حتماً إلى اعتبار أي سياسة تؤيد إرساء الديموقراطية في روسيا على المدى الطويل مجرّد نزعة محافِظة جديدة لتبرير التدخل الأميركي المتواصل وغير الحاسم. لكنه خيار خاطئ. إذا لم يكن الكرملين مستقراً، سيضطر الأميركيون وحلفاؤهم لخوض جولة متكررة من المواجهات مع قادة روسيا. يتعلق الصراع راهناً بأوكرانيا وكان يرتبط سابقاً بشبه جزيرة القرم، وجورجيا، وسوريا. اليوم، لا شيء يثبت أن هذه الدوامة ستتغير إذا بقيت سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا على حالها.

يمكن البدء بوضع سياسة واضحة وجديدة تنعكس إيجاباً على الحرية في روسيا، ما يعني تكثيف الجهود المبذولة لدعم المعارضة الروسية، لا بالمال أو الأسلحة، بل عبر إعطاء موافقة واشنطن لفرض الترتيبات المناسبة. تتطلب هذه العملية التعامل مع مسألة حقوق الإنسان في روسيا على طريقة رونالد ريغان، وخوض حرب معلومات أكثر عدائية وإطلاق حملات دعائية مكثفة، وضمان خسارة روسيا في أوكرانيا.

يُفترض أن تنتهي أيضاً السياسات العقابية التي تُسهّل توحيد صفوف الأوليغارشيين الروس لدعم بوتين. في الوقت الراهن، يتم تجميد أو مصادرة القوارب والمنازل والحسابات المصرفية التي تعود إلى أشخاص اغتنوا بدعمٍ من الكرملين. لا داعي للتعاطف مع هؤلاء السارقين، لكن يجب أن يفهم المعنيون أن ربط مصيرهم بمصير بوتين يقوّي قاعدة دعمه. يُفترض أن يصبّ التركيز إذاً على أموال روسيا. يملك الكرملين 300 مليار دولار على شكل احتياطيات أجنبية في بنوك خارجية. يجب أن تُستعمَل تلك الأموال للتعويض عن الأضرار وتسديد كلفة إعادة إعمار أوكرانيا.

إذا خسرت روسيا في أوكرانيا (يُفترض أن تكون خسارتها عاملاً محورياً في سياسة الناتو أصلاً)، ستكون هذه الخسارة عبئاً ثقيلاً على أكتاف بوتين. لكن حتى لو وقعت تلك الخسارة فعلاً، لا تملك إدارة بايدن أي سياسة حقيقية للاستفادة من فشل بوتين. وحتى الحزب الجمهوري لا يطرح سياسة واضحة في هذا الملف.

وإذا كانت السياسة المعتمدة تتوقف على فوز أحد الطرفَين مقابل خسارة الطرف الآخر، ما سيكون شكل خسارة بوتين؟ وهل ستتقبّل واشنطن وصول كليبتوقراطي وحشي أو قومي روسي آخر بدلاً منه، أم تريد الولايات المتحدة أن يقود معارضون شجعان روس هذا البلد نحو الحرية؟ لتحقيق هذا الهدف الأخير، حان الوقت لمضايقة جلاديهم، وعلى رأسهم بوتين. لن يكون تجميد أصوله الوافرة كافياً، بل يجب أن تتم مصادرتها. حان الوقت إذاً لنشر تفاصيل فساده أمام الشعب الروسي عبر «صوت أميركا» و»إذاعة أوروبا الحرة».

قد يتوقع المعسكر المضاد أن تكتفي هذه الخطوات بتضييق الخناق على بوتين، لكن أصبح هذا الأخير محاصراً منذ وقت طويل. يبدو أن الحل الوحيد أمامه يقضي بالعودة إلى المجتمع الدولي بعد معالجة أزمة أوكرانيا، فينسى الآخرون كل ما حصل وتبدأ مرحلة أخرى من إعادة ضبط العلاقات. لكن لن تدوم أي مرحلة مماثلة من دون حصول تغيير جذري في موسكو. حان الوقت كي يغيّر الأميركيون وجهتهم لتسهيل إحداث ذلك التغيير.

MISS 3