المحامي كريم ضاهر

قراءة دستورية وقانونية ومالية ومصرفية

المادة 113 من قانون النقد والتسليف: موضوع نقاش طويل وخلاف عميق!

19 شباط 2024

02 : 00

*إنتبهوا: في ما يطرحه البعض محاذير وأخطاء ومترتبات داهمة ومخالفات دستورية جسيمة


*من يدفع باتجاه المادة 113 هي المصارف ومن يمثلها في السلطة للهروب من المساءلة والمحاسبة


*التمادي في طروحات تحميل الدولة خسائر مصرف لبنان يخرق مبادئ دستورية وقانونية ومالية


*لا يمكن بأي حال من الأحوال تسجيل دين عام بمفعول رجعي ولا يمكن خرق مبدأ سنوية الموازنة والمحاسبة


* من غير الجائز تحت أي ذريعة تحميل الدولة ديناً لم يوافق عليه ممثلو الشعب بصورة مسبقة


*جلّ همّ المدافعين عن المادة 113 تحييد أو إعفاء المصارف وإدارييها من مسؤوليتهم تجاه المودعين


*المصارف أودعت الأموال طوعاً في مصرف لبنان من دون التيقن من أنها ستسترد ما أودعته


*الأغرب هو كيف حذا مجلس شورى الدولة حذو المصارف وأورد اجتهادات... وأغفل أخرى!


*تشريعات دولية حصيفة رفضت تحميل المكلفين مسؤولية خسارة الودائع من خلال تدخل الدولة


*ينطبق على ما أودعته المصارف في البنك المركزي وأقرضته للدولة توصيف «الدين البغيض»


*أغفل مجلس الشورى جملة اجتهادات وتشريعات صدرت بعد الأزمة المالية العالمية في 2008


*إنهم يريدون وضع المودع بمواجهة الدولة وإعفاء المصارف والمصرفيين من أي مسؤولية


*يسعون لضرب تراتبية المسؤوليات عرض الحائط وإلغاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي


*ردّ الودائع من أصول الدولة دونه محاذير مثل زيادة الأعباء على المكلفين (من غير المودعين)


*لا نعفي الدولة من مسؤولية ما، لكن حذار استسهال التفريط بالأصول العامة وإرث الأجيال المقبلة


*إذا كان كما تدّعون ديناً بذمة الدولة فلماذا لم نرَ له أي أثر في موازنتي 2023 و2024؟؟


*لا يمكن إعفاء الدولة من مسؤوليتها لكن ليس قبل جملة تدابير وشروط ومعايير صارمة جداً


*لا يمكن تسليم التصرف بأصول الدولة وإيراداتها لسياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وصوليين


*ضرائب تخصّصية لردّ ودائع نظيفة لا سيما حسابات الصناديق الاجتماعية والنقابية والمهنية


*إذا اعترفت الدولة بالودائع كديون قد يلجأ حمَلة اليوروبوندز للحجز على موجودات مصرف لبنان


*لا يمكن تحميل الدولة ردّ ودائع غير مشروعة... والمشروعة يمكن ردّها بعد إصلاحات جذرية


*دين عام بمفعول رجعي يضرب أيضاً مبادئ الميزانية في الشمول والشيوع والوحدة والمصداقية



كثر الكلام والنقاش وتكاثرت الآراء في الآونة الأخيرة حول المادة 113 من قانون النقد والتسليف، كسبيل ووسيلة من قبل البعض لتحميل الدولة أعباء العجوزات المتراكمة والديون المترتبة على المصرف المركزي، وبالتالي كآلية متاحة لتأمين إعادة تسديد الودائع المصرفية المحتجزة منذ 17 تشرين الاول 2019 لأصحابها من خلال خصخصة وبيع أصول الدولة أو حتى تلزيم إدارتها وتخصيص إيراداتها ومواردها للغاية المذكورة.

إلا أن هذا التدبير دونه محاذير ومخالفات دستورية جسيمة، كما وأخطار ومترتبات داهمة يقتضي التوقف عندها لتحليلها وتقييمها بصورة موضوعية وشفافة وصريحة. دون إنحياز أو تحّيّز.



أولاً: من حيث القانون

نصّت المادة 113 من قانون النقد والتسليف على ما حرفيته: «يتألف الربح الصافي لمصرف لبنان من فائض الواردات على النفقات العامة والاعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات. يقيد 50% من هذا الربح الصافي في حساب المصرف المركزي يدعى «الاحتياط العام» ويدفع 50% الى الخزينة (خزينة الدولة). عندما يبلغ الاحتياط العام نصف رأسمال المصرف يوزع الربح الصافي بنسبة 20 بالمئة للاحتياط العام و80 بالمئة للخزينة. واذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطى الخسارة من الاحتياط العام وعند عدم وجود هذا الاحتياط أو عدم كفايته تغطى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة. وإذا أصبح رصيد حساب «الاحتياط العام»، من جراء اقتطاع مبلغ بموجب الفقرة السابقة، أقل من نصف الرأسمال يجري توزيع الربح الصافي مجدداً بنسبة 50 بالمئة لهذا الحساب و50 بالمئة للخزينة، الى أن يبلغ الحساب مجدداً نصف الرأسمال».

وقد إستعان البعض وسيما منهم من يدور في فلك إدارات المصارف وجمعيتها بالتفسير العريض للنص المذكور وبالتحديد لفقرته الثالثة أو التفسير بطريقة التوسيع interprétation extensive وإستطراداً المادتين 13 و15 من القانون عينه (المركزي مصرف الدولة) - بعد مساعدة كبيرة وملحوظة من الحاكم السابق لمصرف لبنان الذي سجل، بشخطة قلم وفي آخر مدة ولايته، عجزاً مستجداً للمصرف المركزي بشكل دين مترتب لصالحه بذمة الدولة اللبنانية وعائد لسنوات خلت، وبدون أي تفسير أو تعليل مجدٍ ومنطقي ولا حسيب ولا رقيب ولا إعتراض، لا سيما من قبل من هم في مركز المسؤولية المقابلة للدفاع والذود عن مصالح الدولة (أي وزارة المال ومفوض الحكومة لدى المصرف المركزي)، وذلك، لتحميل كل الفجوة المالية المترتبة من جراء الإنهيار المالي للدولة االلبنانية بمفردها والتفلت أو السماح لمن يمثلون من الهروب من أي مساءلة أو مسؤولية ولو قانونية وتحمل أعباء. مما يشكل لا محالة خرقاً فادحاً لمبادئ دستورية وقانونية ومالية عديدة سوف نستعرض البعض منها في ما يلي.



مبدأ سنوية الموازنة

يقضي هذا المبدأ بأن تعد الحكومة، كل عام، موازنة العام المقبل، وتعرضها على السلطة التشريعية لأخذ موافقتها، ولا تعطى هذه الموافقة، مبدئياً، إلا لسنة واحدة. ويقوم مبدأ سنوية الموازنة هذا، على اعتبارات سياسية وديموقراطية هامة وجوهرية ومنها إصرار الشعب على أن يوافق ممثلوه بصورة مسبقة على فرض الضرائب التي ترغب السلطة التنفيذية في جبايتها، وأن يأذنوا بصورة مسبقة أيضاً لهذه السلطة بالإنفاق ضمن حدود معينة ولغايات معينة. ويستنتج مما تقدم أن تسجيل خسائر ودين على الدولة بمفعول رجعي كما جرى من قبل الحاكم السابق (وعلى إعتبار أن هذا الدين مترتب فعلاً وهذا ما هو غير مضمون)، يخالف بما لا شك فيه هذا المبدأ ويعرّض أي تدبير متخذ في هذا السياق إلى الإبطال بالرغم من صراحة النص القانوني، الذي يلزم الدولة بتغطية الخسارة الناتجة عن العجز في ميزانية مصرف لبنان بدفعة موازية من الخزينة.



مجلس شورى الدولة



أما وإذا ما اعتبرنا بصورة إستطرادية كلية رغم عدم اليقين والواقعية أن الدين مترتب عن أي من عامي 2023 و/أو 2024 فلماذا لم يتم إدراجه إذا ضمن مشروع الموازنة الذي درسه المجلس وأقره في نهاية الشهر المنصرم من العام الحالي؟ أليس هذا دليلاً واضحاً وأكيداً على أن الدولة بسلطتيها التنفيذية والتشريعية رافضة لهكذا إجراء أو تفسير؟ هذا، ناهيك عن أن أي تدبير خارج إطار ما تقدم يضرب أيضاً القواعد الجوهرية الأخرى للموازنة أي المبادئ التي ترعى إعداد الموازنة وهي مبادئ الشمول والشيوع والوحدة، بالإضافة إلى مبدأ الصدقية الذي يكفل بيان حقيقة الأوضاع المالية في الدولة لكي تأتي إجازة الجباية والإنفاق منطبقة على الواقع، ولضمان شفافية إدارة المال العام وتمكين محاسبة الحكومة على عملها وتقييم أدائها. كما يتأمن ذلك أيضاً عبر التصويت على الموازنة بصورة دقيقة ومفصّلة لا بصورة إجمالية وذلك، إنفاذاً للمادة 83 من الدستور. وكلما جاء تخصيص النفقة دقيقاً ومفصلاً، كانت الرقابة فعلية. وعليه، من غير الجائز تحت أي ذريعة تحميل الدولة ديوناً لم يوافق عليها ممثلو الشعب بصورة مسبقة وإن كانت ناتجة عن تطبيق أحكام قانونية.

حق الملكية كحق من الحقوق الأساسية التي يحميها الدستور

لا ريب ولا نقاش ولا جدل حتى في أن حق الملكية هو من الحقوق الأساسية التي يحميها الدستور وسيما المادة 15 والفقرة (و) من مقدمته، وبأن حقوق المودعين وودائعهم المشروعة هي محفوظة وغير قابلة للسقوط أو للتبديد. وتنصّ المادة المذكورة على أن «الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً». وهذا ما ينطبق أيضاً على التمييـز الجائر للودائـع بين جديدة وقديمة أو نقدية ومجمّدة أو كبيرة وصغيرة أو مؤهلة وغير مؤهلة. غير أن المعضلة الأساسية والإلتباس القائم حالياً هو في إحتكار هذا المبدأ والتذرع به من أجل تفلت المصارف وإدارييها من مسؤولياتهم تجاه المودعين، وذلك بخلاف كل النصوص القانونية التي تلزم الوديع (المصرف) بحفظ ورد الوديعة عملاً بأصول العلاقة التعاقدية الصريحة المباشرة القائمة في ما بينهما، كما وأن تراعي في إستعمالها (أي الوديعة) القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه وسيما منها التوفيق بين مدة توظيفها وطبيعة مواردها (المادة 156من قانون النقد والتسليف والمواد 690 وما يليها من قانون الموجبات والعقود).

إلا أن المصارف وللتفلت من المساءلة والمسؤولية تتذرع، منذ إندلاع الأزمة بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف وبحق الملكية لتحميل الدولة اللبنانية وزر الإنهيار المالي وضياع الودائع التي أودعتها هي طوعاً في المصرف المركزي بما يتخطى الإحتياطي الإلزامي، طمعاً بأرباح سريعة ومنافسة قوية ودون التيقن إلى طبيعة هذا الدين الذي يتمتع بمواصفات الدين البغيض Odious Debt، أي الذي يمنح دون احتمال سداد جدي من قبل المقترض؛ مما يحتم على المقرض مقدماً موجب الاستفسار والاستعلام، وذلك تحت طائلة تصنيف سلوكه بالمهمل والمتقاعس؛ وكيف بالحري عندما تكون الدولة اللبنانية بحالة عجوزات ثلاثية (مالية/ميزان تجاري/ميزان مدفوعات) مستدامة وإنهيار مؤسساتي مريع. والأغرب أن مجلس شورى الدولة قد حذا حذو المصارف بموجب قراره الأخير رقم 209 / 2023 -2024 تاريخ 6/2/2024 الذي قبل مراجعة جمعية المصارف وأبطل قرار مجلس الوزراء رقم 3 تاريخ 20/5/2022 (استراتجية النهوض بالقطاع المالي) ،في شقه المتعلق «بإلغاء جزء كبير من إلتزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان (وإلخ)»، بحجة مخالفته لأحكام ومبادئ دستورية ومبادئ مستقاة من إتفاقيات دولية ولقوانين وطنية وبالأخص في ما يعود للتعرض للملكية الفردية، مستشهداً لذلك ومتسلحاً بحزمة واسعة من الفقه والإجتهادات الفرنسية والأوروبية التي يعود معظمها لحقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ودون مجرد ذكر ما تبع من إجتهادات مخالفة ومتعارضة غيّرت واقع الحال بعد الإنهيار المالي الحاصل في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، ورفض تحميل المكلفين بعد هذا التاريخ مسؤولية خسائر الودائع من خلال تدخل الدولة (bail-out).

ونحن نعجب كيف أن مرجعاً كبيراً كالسلطة القضائية الإدارية العليا تتجاهل (ونتمنى أن يكون ذلك ناتجاً عن نقص في المعلومات و/أو عدم إطلاع كاف)، التبدل الحاصل منذ عقد في كل من فرنسا والإتحاد الأوروبي لجهة إعتماد وتكريس مبدأ ونظرية المنفعة العامة (utilité publique) والإستقرار الإقتصادي (stabilité financière) كإستثناء لتبرير التعرض للملكية الخاصة والحرمان من هذا الحق، ولا سيما إذا استدعى الأمر شطب جزء من الديون المستحقة أو الودائع (ونحن بالطبع لا نحفز ولا نقبل، خارج سياق هذا التحليل والإستشهاد، أي تعرض في لبنان للودائع المشروعة ونطالب، بآلية عملية موضوعية لحمايتها وإعادة تسديدها بعد تطبيق التدرج والتراتبية في المسؤوليات). وقد ذهب هذا الإجتهاد الجديد غير المذكور من قبل مجلس الشورى في قراره العتيد إلى قبول فكرة غياب المقابل، حتى عندما تبرر ذلك الظروف الإستثنائية (يراجع بهذا الخصوص قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان CEDH تاريخ 22/1/2004 وقرار محكمة العدل الأوروبية 15 / 41 / CIUE noC تاريخ 8/11/2016 بالنسبة لتشبيه الإستقرار المالي بالمصلحة العامة). كل ذلك بالإضافة إلى التشريع الحاصل بهذا الخصوص في فرنسا (قانونSRAB تاريخ 26/7/2013 ونظام SRMR تاريخ 15/7/2014) والإتحاد الأوروبي (التوجيهات الأوروبية BRRD تاريخ 15/5/2104 والقانون التطبيقي رقم 806/2014 تاريخ 15/7/2014)، والذي كرس هذا المنحى الجديد للحؤول دون مواجهة أي «أزمة نظامية «crise systémique» كالتي تذرعت بها وذكرتها جمعية المصارف في بيانها الأخير تاريخ 15/2/2024 الذي أعقب صدور مجلس شورى الدولة المنوه عنه أعلاه. فأهلاً إذا بالجمعية إذا ما ارادت أن يتم تطبيق النصوص والقرارات الأوروبية الآنفة الذكر على وضعها بدءاً بإعادة الهيكلة والرسملة وتحمل المسؤولية كما والإنقاذ بمشاركة داخلية ( bail-in ). أما وضع المصارف بمواجهة الدولة وتبرئة المسؤولين السياسيين والماليين، مما يعني وضع المودع بمواجهة المكلف وما يتبع من إنفصام الشخصيات، فهذا مدان ومرفوض.



مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين

لا يمكن إلا التسليم والإعتراف بداية بأن أي شطب غير مبرر للودائع عدا عن تعرضه للملكية الفردية كما أسلفنا من شأنه أن يمس أيضاً بصورة مطلقة بمبدأ المساواة من حيث تحميل فئة من المواطنين والمقيمين أوزار سوء إدارة وتبديد المال العام وسياسات الدعم غير المجدية. مما يشكل مخالفة للمادة السابعة من الدستور والفقرة (ج) من المقدمة اللتين تكرسان مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة. غير أننا لا نخال في المقابل أن أحداً من المسؤولين يجهل أو يتجاهل أن من شأن تطبيق أحكام المادة 113 الآنفة الذكر من قانون النقد والتسليف بالنسبة لكامل المبالغ المستحقة على مصرف لبنان أو بذمته تجاه دائنيه- وسيما منهم المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان وتحميلها للدولة من خلال مبدأ الحلول القانوني (subrogation)- تحميل الدولة اللبنانية ديناً لا قدرة لها على تحمله راهناً بمجمله (قبل التحقق من مشروعيته) وإيفائه على المدى المنظور؛ وبالأخص بغياب أي مسعى جدّي لإصلاح النظام برمته وتغيير الإدارة والحوكمة لتأمين إستعادة الثقة وإعادة إطلاق للعجلة الإقتصادية وإستقطاب الإستثمارات وتعزيزها، كما وتحفيز النمو وتقوية وزيادة الإيرادات وسيما الضريبية منها لتأمين فائض أولي وإستدامة الدين العام؛ مما يمكن الدولة عندها من إيفائه تدريجياً. وبالتالي، سوف تجد الدولة نفسها لا محالة في الحالة المعروضة ملزمة بالتخلي عن جزء كبير من أصولها المنقولة وغير المنقولة. وبما أن تلك الأصول ملك للشعب اللبناني بأجمعه فإن قرار بيعها من أجل سداد ما هو متوجب وإن كان لسبب مشروع- وهو إيفاء حقوق المودعين أو تمويل صندوق إسترداد الودائع- فيبقى بطبيعته أمراً غير عادل ولا يصب سوى في صالح فئة من الشعب هم المودعون، في حين يحرم فئة أخرى من اللبنانيين كما المقيمين من غير اللبنانيين والذين لهم صفة المكلّفين ضريبياً في لبنان من إيرادات مستدامة ويزيد الأعباء عليهم؛ فضلاً عن التصرّف والتفريط بإرث الأجيال القادمة. هذا، ناهيك عن عدم الثقة بالادارة الحالية من سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال متواطئين ومستفيدين لاتمام أي عمليات بيع أو خصخصة أو تلزيم إدارة في ظلّ الفساد والمحاصصة المستشريين وسوء الإدارة القائم. وبالتالي، سوف يستتبع الإجراء المذكور معارضة شرسة من شريحة كبيرة من أولي الشأن لطلب إبطاله والعدول عنه بحجة مخالفته مبدأ المساواة بين المواطنين المنصوص عليه في المادة 7 من الدستور والفقرة (ج) من المقدمة، التي تذكر بأن الجمهورية اللبنانية تقـوم على مجموعـة من المبادئ الديمقراطية الأساسية، ومن بينهـا العدالـة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.

وتجدر الإشارة إلى أن التحفظ على تطبيق المادة 113 من قانون النقد والتسليف كما هو مقترح لا يعني بالمقابل إعفاء الدولة اللبنانية من مسؤوليتها في نهاية المطاف كدولة راعية وحامية لرعاياها وملتزمة مسؤولياتها، وإنما بشرط إستباق ذلك ببعض التدابير الضرورية وربطه بمعايير وشروط واضحة وحازمة. وبالتالي، فأول الغيث هو التمييز بين الودائع ذات المصادر النظيفة والشرعية/القانونية والودائع غير الشرعية/القانونية التي تغطّي مالاً قذراً أو مكتسباً بصورة غير مشروعة سواء من خلال الفساد و/أو مخالفة القوانين المرعية ولا سيما الضريبية والمالية والتجارية منها. وهذا ما قد يساعد على تتبع العمليات وكشف المخالفات والتجاوزات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين، وإن عن طريق التسويات لتغيير الحوكمة والحكم في كافة الإدارات بما يضمن نجاح أي إصلاح مرتقب. وعندها، وعندها فقط، تعطي الدولة إلتزامها الصريح والنهائي بضمان الودائع المشروعة وتأمين إعادة تسديدها تدريجياً وفقاً لما تسمح به الظروف والإمكانيات ضمن خطة موضوعية متكاملة، مع إجراءات ملازمة وسيما من خلال ضرائب تخصيصية (earmarked taxes) على الأرباح المحققة عن طريق عمليات أثرت على حجم الودائع والضمانات كما وعلى قطاعات لا تؤمن قيمة مضافة للإقتصاد. كما يمكن توسيع النطاق عبر مساهمات إضافية من قبل الدولة وفق ما سوف يصار إلى إعتماده والتوافق عليه بموجب قوانين لاحقة ذات الصلة ومنها ما هو محقق من خلال فائض أرباحها أو عائداتها؛ مع السعي الجدي بالموازاة لحماية حسابات الصناديق الاجتماعية والنقابية والمهنية.

ثانياً: من حيث المحاذير

بالإضافة إلى العرض القانوني الدستوري الموجز الآنف الذكر، من المفيد والمهم التنبيه والتحذير من بعض التداعيات والمخاطر الأخرى التي قد تستجد أو تترتب من جراء إعتماد المادة 113 من قانون النقد والتسليف كسبيل ووسيلة لتحويل دين وإلتزامات مصرف لبنان تجاه المصارف إلى الدولة اللبنانية مباشرة وأهمها:



الإدعاء بالتشابك ( Intertwining ) للحجز على أموال الدولة و/أو مصرف لبنان

إن تحمّل الدولة ديون مصرف لبنان الداخلية (مستحقات للمصارف الناتجة عن ودائع مصرفية) من شأنه تأكيد التشابك (Intertwining) القائم بينهما كون علاقة مصرف لبنان بالدولة اللبنانية عضوية، بدليل آلية تعيين وتكوين المجلس المركزي والدور الذي يلعبه المصرف في تمويل الدولة والإيفاء بإلتزاماتها، كما والدور الرقابي الذي ينص عليه قانون النقد والتسليف ولا سيما لجهة دور وصلاحيات مفوض الحكومة. ومن شأن التشابك الآنف الذكر وتدخل الدولة المباشر أن يستتبع وفقاً لبعض الآراء القانونية العليمة تسهيل إلقاء الحجز من قبل الدائنين (سيما منهم حملة الـ Eurobonds) على ما يملكه المصرف المركزي من أصول (ذهب، أسهم في الشركات، طائرات، إلخ) وبيعه بالمزاد العلني... مما يبدد ما تبقى من ضمانات.التفلّت من المساءلة والمسؤولية وتخفيض ضمانات المودعين

من البديهي الإستشهاد هنا بما يحصل عادة في كل الدول التي تشهد إنهياراً مالياً وتوقف المصارف الرئيسية عن تلبية مطالب عملائها بسبب سوء إدارتها وإستثماراتها المتهورة والمغامرة (أزمة إيسلندا سنة 2008 على سبيل المثال)، إذا يتم حكماً وحالاً ضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) وتطبيق القوانين المرعية الإجراء(القانونين 67/2 و 91 / 110) بالنسبة إلى لبنان (مع تنحية وعزل رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى مفوضي المراقبة وسائر الاشخاص الذين لهم حق التوقيع وحجز أصولهم)، لمساءلتهم جميعاً وتحديد المسؤوليات وعند الإقتضاء تحميلهم التبعية والمسؤولية الجزائية والمدنية على ذمتهم الخاصة. كما يتم أيضاً تعيين بدلاء عنهم للشروع في التدابير والآليات التي من شأنها حماية الحقوق وإنقاذ المصرف وإعادة الثقة. وفي هذا السياق، لا بد من لفت النظر إلى أن مسعى تحميل الدولة مسؤولية عجز وديون مصرف لبنان تجاه المصارف عملا بأحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف سوف يضع المودعين بمواجهة مباشرة مع الدولة ويعفي المصارف (وبالتالي المصرفيين) من أية مسؤولية بفعل تذرعها بأنها غير متوقفة عن السداد وقادرة، إذا تحملت الدولة المطلوبات، من تأمين ملاءتها ومتابعة أعمالها. وبنتيجة ما تقدم سوف يضرب عرض الحائط بمبدأ تراتبية المسؤوليات (Waterfall) الذي تم التوافق عليه مع صندوق النقد الدولي وهو الذي يعتمد لتحديد المسؤوليات وتوزيعها بصورة عادلة ومحقة، كما ولملاحقة المسؤولين عن الإنهيار بهدف شطب ما يمكن شطبه من ودائع غير مشروعة أو غير محقة، وإسترداد ما يمكن إسترداده من أصول وأموال لإعادة تكوين الودائع ووضع حدّ نهائي لحالة عدم المحاسبة والتفلت من العقاب. بمعنى آخر، سوف يخسر المودعون في هذه الحالة ضمانة أساسية وكتلة مهمة مما يمكن تحصيله من أصول وقيم مادية لإسترجاع الودائع.


جمعية المصارف - لبنان




خلاصة القول: يمكن بالتأكيد رد الودائع المشروعة، ولكن!

إزاء ما تقدم من عرض وتحليل ماذا يمكن إستنتاجه وإستخلاصه؟ هل بات متعذراً الوصول إلى حلول منطقية وعادلة دون التعرض إلى أو التفريط بحقوق أية جهة صاحبة حق ومشروعية؟ هل الأمور صارت مستعصية على الحل إلى حدّ اللاعودة وأضحى الإفلاس واقعاً محتماً لا هروب منه والسقوط أكيد لا محال؟ الجواب هو بالنفي والدحض إذ إنه لا يمكن التسليم باستنتاجات كهذه، ولو باتت قاب قوسين من التحقق، بل يتوجب علينا المواجهة والمبادرة الفورية إلى التوافق السريع على خطة موضوعية وعملية وعادلة لإعادة الإنتظام للنظام المالي والقطاع المصرفي في لبنان، وإيجاد حل لموضوع الودائع مع ضمان وحماية المشروعة منها وطرحه على المجلس للمصادقة عليه ووضعه موضع التنفيذ؛ بالإضافة إلى تحضير ورشة عمل إصلاحية شاملة وموازية في إدارة الشأن العام وأصول التعامل مع المال العام كون الأزمة هي أولاً وأخيراً أزمة نظام. وإلا، فالأمور ذاهبة إلى حيث لا يحمد عقباه أي إلى المزيد من التسويف وتضييع الوقت لتذويب ما تبقى من ودائع وتيئيس أصحابها وتعميق الأزمة الإقتصادية، مما سيحوّل لبنان إلى دولة فاشلة ومارقة يتحكم فيها القوي بالضعيف ويتسلط عليه ويحتكر حقوقه وموارده بغياب شبه تام لمؤسسات الدولة؛ ناهيك عن إقتصاد غير شرعي متوحش ومنبوذ دولياً... وعندها نستودع الودائع والسلام على الحقوق والأجيال والأوطان.

**استاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامة




MISS 3