شربل داغر

ما يَنتابُني

26 شباط 2024

02 : 00

ينتابني أحيانا شعور بأنني عشتُ من العمر عتيا، إذ تضيق في ذاكرتي الوجوه

والمواعيد المدهشة والبليدة، والتي وقعتْ في وهدة النسيان.

ينتابني أنني عشتُ ما يكفي، ما لا حاجة للتزيّد منه، ما دام أن ما يتقدم ويستقبلني، يزيدني قناعة بأننا نأكل بعضنا البعض من دون إبطاء أو إمهال أو شبع : لا حاجة للمزيد مما لن أقوى على إصلاحه أو تعديله.

ينتابني أنني شهدتُ ميتات وحروباً ومباهج ما لم يعشْه والدي أو جدي. وأنني عشتُ ما يناسب عدة حيوات، عدة شخوص.

ينتابني أن ما عايشتُه في ساعات بهجة يساوي دهراً، عمراً، ما يفوق بكثير سنوات النكد والهم.

ينتابني ما لا أعرف مثل قارئ في كتاب بأوراق بيضاء، أو من يجلس في قطار ويكتفي بالنظر من النافذة المتسخة.

ينتابني أنه ما كان لي أن أعيش غير ما عشتُ، بحماقاتها وانسداداتها ومباذلها، من دون استعادة أو ندم، مثل قدر غاشم.

ينتابني أنني أقرب إلى سيزيف: أحمل الصخرة عينها، وأرتفع بها جاهداً حتى بلوغ قمة الوصول والألم، لكن الصخرة لا تلبث أن تتساقط من يدي، فلا استكين، أو أندم : أعاود رفعَها من جديد.

ينتابني ما لن أذكره في مقال أو كتاب، مما يرزح فوق صدري مثل بخار من ضيق، ويتعالى أمامي مثل سيجارة لا أدخنها، مثل نفَسي الذي أخشى أن ينقطع من دون أن أُخرج الغم مني في هبوب الكلام.

ينتابني ما لن أكتبه، ما دام متاحاً وبليداً.

ينتابني أن بعض ما كتبتُ، لم يُقلِّب أوراقَه أحدٌ: في انتظار المستقبل، على ما يبدو.

ينتابني ما أعرف، وأذكر، وما يتردد في أيامي، من دون ألفةٍ غير التي تصيبني من دون إذن، في ذلك الهباء اليومي الذي يصرف الثواني والدقائق والساعات من دون عدّ، مثل عملة تالفة.

ينتابني أن ما عاشه جدي قد يلتقي، في بعضه، مع ما أعيش، لا سيما في بيته، حين أجد أنه أدار وجهة البيت بعكس طلوع الشمس، وتأمل طويلاً في تلاوين وادي الغياب.

ينتابني أنني سافرتُ أكثر منه، وعرفتُ أكثر مما عرف، وأنني تكلمتُ أكثر منه بكثير، من دون أن أجد ذلك التصميم الذي في جلسته، والثقة التي في عينيه.

ينتابني ما لا قدرة لي على تحمله، فلا أغضب من قعودي، ما دام له ظهور آخر أمامي، في أي وقت، مثل مصاحبةٍ كريهة لما أعيشه في عادي الأيام.

ينتابني كثير مما لي أن أقول، فلا أكتبه. مما يجتمع في شتيمة، من دون أن أقذفه في وجهِ أي كان. مما يخطر في منامي، ويسعى في نهاري مثل جار أليف.

ينتابني أنني لم أحب ما يكفي. ولم أحزن ما يكفي. ولم أعترض ما يكفي. ولم أندم ما يكفي. مثل من يحصي خطواته قبل سقوط المطر.

ينتابني أنني عشتُ ما يكفي، مع أنني لا أشبع، بل أبقى طامعاً بمزيد. فأيا كان ما سيأتي، سيبقى فرصةً، فتحةً، بل المدهش الذي يتراءى في احتمالات.

ينتابني أن التخيل ينصب لي أفخاخاً لما لم أعش، ولن أتذكر، وهي أفخاخ الدهشة الرقيقة.

MISS 3