توفيق كسبار

دراسة كسبار الصادرة عن معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية (الحلقة 1)

"سياسات" سلامة المسؤول الأول عن الانهيار المصرفي

28 شباط 2024

02 : 00

‬*كان‭ ‬يدير‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بشكل‭ ‬أحادي‭ ‬معتمداً‭ ‬أساليب‭ ‬محاسبية‭ ‬إعتباطية،‭ ‬وخافياً‭ ‬خسائره‭ ‬المتزايدة‭

كما أخفى عن التدقيق تحويلات ومحولين وعمليات مالية كثيرة

*المذنب‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬»الهندسات‭ ‬المالية‮‬‭ «‬المكلفة‭ ‬التي‭ ‬نفذها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بإغراء‭ ‬المصارف‭ ‬لتحويل‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬من‭ ‬المصارف‭ ‬الأجنبية‭ ‬المراسلة‭ ‬إلى‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭

*أغريت المصارف ‬بمعدلات‭ ‬فائدة‭ ‬عالية‭ ‬وعلاوات‭ ‬غير‭ ‬اعتيادية‭.‬ فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬إنخفاض‭ ‬سيولة‭ ‬المصارف‭ ‬بالدولار‭ ‬بشكل‭ ‬ حاد

*شاركت‭ ‬المصارف في الهندسات ‬طواعية‭ ‬مسيئة‭ ‬إدارة‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬وسياستها‭ ‬الإئتمانية

*تكمن‭ ‬مسؤولية‭ ‬الحكومة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإنهيار‭ ‬في‭ ‬فشلها‭ ‬المنهجي‭ ‬كسلطة‭ ‬رقابية‭ ‬على‭ ‬المصارف،‭ ‬أما‭ ‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬فهو‭ ‬حدث‭ ‬منفصل‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬انعدام‭ ‬المسؤولية‭ ‬المالية‭ ‬للحكومة‭ ‬والممارسات‭ ‬الفاسدة




تنشر «نداء الوطن» تباعاً بعض أجزاء التقرير الذي نشرته الجامعة الأميركية (معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية) وأعده الخبير المالي والمصرفي الدكتور توفيق كسبار، حول تقرير‭ ‬التدقيق‭ ‬ الذي ‭ ‬أجرته‭ ‬شركة‭ ‬(‬Alvarez‭ & ‬Marsal‭) ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬عن‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬2015‭ ‬و2020‭ ‬، وهو التقرير‭ ‬الرسمي‭ ‬الوحيد‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬جهة‭ ‬تدقيق‭ ‬خارجية‭ ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬منذ‭ ‬تأسيسه‭ ‬وبدء‭ ‬عملياته‭ ‬في‭ ‬العام ‬1964. وفي ما يلي الحلقة الأولى من التقرير:






مؤسسة مستقلة

مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬مؤسسة‭ ‬مستقلة‭ ‬تتمتع‭ ‬بالصلاحيات‭ ‬الأوسع‭ ‬بين‭ ‬المصارف‭ ‬المركزية،‭ ‬قانوناً‭ ‬وممارسة‭ .‬تناط‭ ‬سلطة‭ ‬وضع‭ ‬سياساته‭ ‬بالمجلس‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬مستقلين‭ ‬ويرأسه‭ ‬حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ .‬يستنتج‭ ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬الحاكم‭ ‬كان‭ ‬يدير‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بشكل‭ ‬أحادي‭ ‬معتمداً‭ ‬أساليب‭ ‬محاسبية‭ ‬اعتباطية،‭ ‬وخافياً‭ ‬خسائره‭ ‬المتزايدة‭ ‬تحت‭ ‬بنود‭ ‬نفقات‭ ‬مؤجلة‭ ‬وإيرادات‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬وعن‭ ‬غيرها. ‬لم‭ ‬يسائل‭ ‬أي‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬مسؤول‭ ‬حكومي‭ ‬أياً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات. ‬للمثال يذكر ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬مبلغاً ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬111‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬أميركي‭ ‬دُفع‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬عمولات‭ ‬غير‭ ‬مشروعة‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تحديد‭ ‬المستفيدين‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬طبيعة‭ ‬المعاملات‭ ‬التي‭ ‬أنجزت‭ ‬وتبرز‭ ‬عمليات‭ ‬ومعاملات‭ ‬عدة،‭ ‬تقدر‭ ‬قيمتها‭ ‬بمئات‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات،‭ ‬استفاد‭ ‬منها‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ ‬نفسه‭. ‬

عجز 60 ملياراً

درج‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬ميزانيات‭ ‬بوضعيات‭ ‬مالية‭ ‬إيجابية،‭ ‬لكن‭ ‬التقرير‭ ‬كشف‭ ‬خسائر‭ ‬كبيرة‭ ‬مترتبة‭ ‬عليه. ‬وأموال‭ ‬خاصة‭ ‬سالبة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬صافي‭ ‬احتياطي‭ ‬بالعملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬سلبي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬عجز‭ ‬مقداره‭ ‬60‭ ‬ مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام ‭ ‬2019. المذنب‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬»الهندسات‭ ‬المالية‮‬‭ «‬المكلفة‭ ‬التي‭ ‬نفذها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بإغراء‭ ‬المصارف‭ ‬لتحويل‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬من‭ ‬المصارف‭ ‬الأجنبية‭ ‬المراسلة‭ ‬إلى‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭،‬ مقابل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬معدلات‭ ‬فائدة‭ ‬عالية‭ ‬وعلاوات‭ ‬غير‭ ‬اعتيادية‭.‬ فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬انخفاض‭ ‬سيولة‭ ‬المصارف‭ ‬بالدولار‭ ‬بشكل‭ ‬حاد إلى‭ ‬نحو‭ %7 ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الأهم‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ ‬المصرفي. ‬الانهيار‭ ‬المصرفي‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬سياسة‭ ‬الهندسات‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬انتهجها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وشاركت‭ ‬فيها‭ ‬المصارف‭ ‬طواعية‭ ‬مسيئة‭ ‬إدارة‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬وسياستها‭ ‬الائتمانية،‭ ‬فيما‭ ‬تكمن‭ ‬مسؤولية‭ ‬الحكومة‭ ‬اللبنانية‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الانهيار‭ ‬في‭ ‬فشلها‭ ‬المنهجي‭ ‬كسلطة‭ ‬رقابية‭ ‬على‭ ‬المصارف. ‬أما‭ ‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬اللبنانية‭ ‬فهو‭ ‬حدث‭ ‬منفصل‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬انعدام‭ ‬المسؤولية‭ ‬المالية‭ ‬للحكومة‭ ‬والممارسات‭ ‬الفاسدة‭.‬

إختفاء 25 مليار دولار

‬يكشف‭ ‬تحليل‭ ‬لمصادر‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬لدى‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬ووجهات‭ ‬استخدامها‭ ‬عن‭ ‬رصيد‭ ‬متبقّ‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬25‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬وغير‭ ‬قابل‭ ‬للتفسير‭ ‬محاسبياً. ‬ولكن‭ ‬يرجح‭ ‬أن‭ ‬المصارف‭ ‬اشترتها‭ ‬وحوّلتها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬مساهميها،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسات‭ ‬المصرفية‭ ‬نفسها. ‬منذ‭ ‬أواخر العام 2019 يشهد ‬لبنان‭ ‬سنة‭ ‬صفر‮‬‭ ‬مالية. ‬فالودائع‭ ‬المصرفية‭ ‬مجمدة‭ ‬عملياً،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬المودعون‭ ‬والمقيمون‭ ‬عموماً،‭ ‬يتحملون‭ ‬كل‭ ‬كلفة‭ ‬الانهيار‭ ‬المالي. ‬لم‭ ‬يتخذ‭ ‬أي‭ ‬إجراء‭ ‬تصحيحي‭ ‬رسمي،‭ ‬ولم‭ ‬يُحاسب‭ ‬أي‭ ‬مسؤول‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬مصرفي،‭ ‬وتستمر‭ ‬المصارف‭ ‬المفلسة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بشكل‭ ‬عادي،‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬فعلياً ‬‮«مصارف‭ ‬زومبي‮‬».

التعافي المالي ممكن

تقترح‭ ‬الدراسة‭ ‬إجراءات‭ ‬قانونية‭ ‬ومعيارية‭ ‬عاجلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استعادة‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬المودعين‭ ‬وإعادة‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬ضروري‭ ‬للنمو‭ ‬الاقتصادي. ‬لكن‭ ‬مفتاح‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬قيادة‭ ‬سياسية‭‬‮ «‬شريفة‮‬‭ «‬للبدء‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬العلاجات‭ ‬المعروفة،‭ ‬فيتبعها‭ ‬حكماً‭ ‬مسار‭ ‬طبيعي‭ ‬للتعافي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الجبهات‭.‬

التدقيق الجنائي

«التدقيق‭ ‬هو‭ ‬عرض‭ ‬للحقائق‭ ‬المالية‭ ‬وفقاً ‬لمبادئ‭ ‬المحاسبة‭ ‬المعتمدة،‭ ‬أما‭ ‬التدقيق‭ ‬الجنائي‭ ‬فيقوم‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬إذ‭ ‬يعاين‭ ‬السجلات‭ ‬المالية‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬مالي‭ ‬غير‭ ‬قانوني‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامه‭ ‬كدليل‭ ‬في‭ ‬المحكمة‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬التقرير،‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬كامل،‭ ‬نظراً‭ ‬لحجب‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان. ‬جاء‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تقديم‭ ‬المعلومات‭ ‬المطلوبة‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة ‬‮»‬السرية‭ ‬المصرفية‮»‬،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تكليف‭» ‬ألفاريز‭ ‬آند‭ ‬مارسال»‬‭ ‬رسمياً‭ ‬بالتدقيق‭ ‬وتعليق‭ ‬البرلمان‭ ‬قانون‭ ‬السرية‭ ‬المصرفية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البرلمان‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬إكمال‭ ‬الشركة‭ ‬التدقيق‭ ‬الجنائي. ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬قانون‭ ‬السرية‭ ‬المصرفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬يغطي‭ ‬عادة‭ ‬المعلومات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمودعين‭ ‬في‭ ‬المصارف،‭ ‬وليس‭ ‬المعلومات‭ ‬المصرفية‭ ‬الأخرى‭ ‬مثل‭ ‬النفقات‭ ‬أو‭ ‬القروض‭.

ومن‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تقديمها‭ ‬لشركة‬‮ «‬ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال»‭ ‬نذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال: ‬توصيف‭ ‬عمليات‭ ‬منفذة‭ ‬والغرض‭ ‬منها‭ ‬المستفيدون‭ ‬من‭ ‬التحويلات‭ ‬المصرفية‭ ‬عبر‭ ‬نظام‭ ‬سويفت،‭ ‬وهويات‭ ‬منشئي‭ ‬العمليات‭ ‬وطبيعة‭ ‬كل‭ ‬منها كما انه لم يسمح بإجراء مقابلات شخصية مع موظفيه وقيادته.

ممارسة الصلاحيات

فشل‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وتحديداً‭ ‬مجلسه‭ ‬المركزي‭ ‬المعني‭ ‬بحوكمته‭ ‬ووضع‭ ‬السياسات‭ ‬وبرئاسة‭ ‬الحاكم،‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وتام‭ ‬في‭ ‬‬المهمتين‭ ‬الأساسيتين اي المحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬النقد‭ ‬اللبناني،‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬أوضاع‭ ‬النظام‭ ‬المصرفي‭ ‬وتطوير‭ ‬بنيته‭ ‬الأساسية،‭ ‬ويتفاقم‭ ‬هذا‭ ‬الفشل‭ ‬لكون‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمصارف‭ ‬المركزية‭ ‬الأخرى،‭ ‬مستقلاً ‬عن‭ ‬الحكومة‭ ‬ويتمتع‭ ‬بصلاحيات‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأوسع‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬المال‭ ‬والمصارف. ‬وبالفعل،‭ ‬يشير‭ ‬التقرير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بموجب‭ ‬القانون‬‮ «‬مستقل‭ ‬مؤسسياً‭ ‬ووظيفياً‭ ‬وشخصياً‭ ‬ومالياً».

ويتضمن‭ ‬قانون‭ ‬النقد‭ ‬والتسليف‭ ‬أيضاً ‬آليات‭ ‬إشرافية‭ ‬تمارسها‭ ‬مؤسسات‭ ‬أو‭ ‬أشخاص‭ ‬محددون‭ ‬يمكنهم‭ ‬مساءلة‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬سياساته،‭ ‬وهم: المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬الذي‭ ‬يحدّد‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬ووزير‭ ‬المالية‭ ‬والبرلمان‭ ‬ومفوض‭ ‬الحكومة. يتألف‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬أعضاء‭:‬ حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي،‭ ‬ونوابه‭ ‬الأربعة،‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬لوزارة‭ ‬المالية‭ ‬والمدير‭ ‬العام‭ ‬لوزارة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتجارة‭.

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تعاين‭ ‬لجنة‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬المصارف‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬لكل‭ ‬مصرف‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬وتبلغ‭ ‬الحاكم‭ ‬بالنتائج‭ ‬التي‭ ‬تتوصل‭ ‬إليها. ‬وهي‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬يمكنها‭ ‬فرض‭ ‬إجراءات‭ ‬تصحيحية‭ ‬وعلاجية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مصرف‭ ‬فردياً.

لكنه مارس إدارة أحادية على ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الجدران‭ ‬الحمائية‭ ‬القانونية‭ ‬والإشرافية،‭ ‬يذكر‭ ‬تقرير‭ ‬»ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال‮‬‭ «‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد: ‬‮‬لم‭ ‬تحدد‭ ‬أي‭ ‬حالة‭ ‬طعن‭ ‬بقرارات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات‭ ‬المذكورة‭ ‬.

وأشار بشكل‭ ‬خاص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬كان‭ ‬غير‭ ‬فعال‭ ‬والحاكم‭ ‬نفسه‭ ‬مارس‭ ‬سلطة‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬لأية‭ ‬رقابة.



سياسات محاسبية غير تقليدية

‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬البيانات‭ ‬المالية‭ ‬المنشورة‭ ‬صورة‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‮ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬المنهجية‭ ‬الدولية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬اعتباطية‭ ‬وغير‭ ‬متسقة،‭ ‬إذ‭ ‬طبق‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬إجراءات‭ ‬تدقيق‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أحكام‭ ‬شخصية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالهندسات‭ ‬المالية‭.

لم‭ ‬يظهر‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬أي‭ ‬خسائر‭ ‬مالية‭ ‬في‭ ‬ميزانيته‭ ‬العمومية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الخسائر‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2002‭ ‬ على‭ ‬الأرجح،‭ ‬عندما‭ ‬توقف‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬نشر‭ ‬بيانات‭ ‬الربح‭ ‬والخسارة‭ ‬السنوية‭.

ولإخفاء‭ ‬خسائره‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬50‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام 2019 استحدث‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بنوداً‭ ‬لإيرادات‭ ‬مفترضة،‭ ‬كتلك‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة،‭ ‬وتأجيل‭ ‬دفع‭ ‬الفوائد‭ ‬المستحقة،‭ ‬وذلك‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالخسائر‭ ‬لحظة‭ ‬وقوعها‭ ‬.

هدفت‭ ‬الإجراءات‭ ‬المحاسبية‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬اتبعها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬قيمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬وغيرها‭ ‬ واستخدامها‭ ‬لتعويض‭ ‬الفوائد‭ ‬المؤجلة‭ ‬والنفقات‭ ‬الأخرى‭ ،‬والربح‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة ‭ -‬وهو‭ ‬الشكل‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعاً - ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬القيمة‭ ‬الاسمية‭ ‬لجميع‭ ‬العملات‭ ‬اللبنانية‭ ‬والكلفة‭ ‬الفعلية‭ ‬لطبعها.‭ ‬كما‭ ‬أضاف‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بنوداً ‬أخرى‭ ‬وهي‭» ‬أرباح‭ ‬سندات‭ ‬الخزينة‭ ‬اللبنانية‮‬‭ ‬وأرباح «‬الاستقرار‭ ‬المالي‮»‬،‭ ‬ليصل‭ ‬مجمل‭ ‬الدخل‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬48‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام ‬2020.

‭ ‬ألغت ‬‮»‬ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال‭ «‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإيرادات‭ ‬المزعومة‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬المدققة‭ ‬المعدلة،‭ ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬انهيار‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬والانخفاض‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬الليرة‭ ‬منذ‭ ‬تشرين‭ ‬الأول‭ / ‬أكتوبر‭ ‬،2019‭ ‬كانت‭ ‬وقاحة‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ ‬واضحة‭ ‬باستمراره‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬إيرادات‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬36‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬2020‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬والاستقرار‭ ‬المالي‭.

الشفافية

الشفافية غائبة ولم‭ ‬يكشف‭ ‬علناً‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬معلومات‭ ‬مهمة‭ ‬في ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬خسائره بل ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬كان‭ ‬يصرح‭ ‬عن‭ ‬تحقيقه «‬أرباحاً‭ ‬كبيرة‮‬‭.»

عدلت‭ ‬عمليات‭ ‬التدقيق‭ ‬التي‭ ‬أجرتها‭ ‬‮‬»ألفاريز‭ ‬آند‭ ‬مارسال»‭ ‬بعض‭ ‬أرقام‭ ‬الميزانية‭ ‬العمومية‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬للفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬2015‭ ‬و2020‭ ‬ وفقاً‭ ‬لمبادئ‭ ‬التدقيق‭ ‬المعتمدة. ‬وأسفرت‭ ‬بالنتيجة‭ ‬عن‭ ‬توصيف‭ ‬أدق‭ ‬للوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬تقدمه‭ ‬حساباته‭ ‬الخاصة،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مؤشراته‭ ‬الرئيسة‭. ‬

إن‭ ‬حجم‭ ‬خسائر‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬وتدهور‭ ‬وضعه‭ ‬المالي،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ،‬2015‭ ‬تتضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مؤشراته‭ ‬الأساسية، ‬‭‬مثل‭ ‬الأموال‭ ‬الخاصة‭ ‬وصافي‭ ‬احتياطيات‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية. ‬إن‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الأرقام‭ ‬الفعلية‭ ‬والمعلنة‭ ‬صارخ‭.‬ أيضاً‭ ‬يكشف‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬الفعلي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬عن‭ ‬سوء‭ ‬الإدارة‭ ‬الفاضحة‭ ‬ومسؤوليته‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭.‬ ووسيلته‭ ‬المعتمدة‭ ‬كانت‭ ‬‮ «هندساته‭ ‬المالية‮‬‭.» ‬

الانهيار المصرفي: كيف؟ ومَن المسؤول؟

‬يسود‭ ‬اعتقاد،‭ ‬بين‭ ‬السياسيين‭ ‬بشأن‭ ‬الانهيار‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬ويتكرر‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أدلة‭ ‬رسمية‭ ‬منشورة‭ ‬سردية‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬تبرئ‭ ‬المصارف‭ ‬ومصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وهي‭ ‬مصاغة‭ ‬كالتالي‭ :‬لقد‭ ‬وضع‭ ‬الناس‭ ‬أموالهم‭ ‬في‭ ‬المصارف،‭ ‬والمصارف‭ ‬وضعت‭ ‬الأموال‭ ‬في‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬ثم‭ ‬أقرض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬الأموال‭ ‬للحكومة‭ ‬التي‭ ‬أهدرتها‭ ‬بالفساد،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ .‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الديون‭ ‬الحكومية‭ ‬والفساد‭ ‬هما‭ ‬سبب‭ ‬الانهيار‭،‬ هذه‭ ‬القصة‭ ‬خيالية‭ ‬ولم‭ ‬تشرح‭ ‬بالتفصيل‭ ‬ولا‭ ‬دعمت‭ ‬بحقائق‭ ‬ووقائع‭.‬ السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬للانهيار‭ ‬المصرفي‭ ‬هو‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬والسبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لانهيار‭ ‬الليرة‭ ‬اللبنانية‭ ‬هو‭ ‬السياسة المالية.‭ ‬‬الانهياران‭ ‬مختلفان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬طبيعتهما‭ ‬وأسبابهما‭ ‬وتداعياتهما‭. ‬إن‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬أقله‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2015‭ ‬والمعروفة‭ ‬بـ»‬الهندسة‭ ‬المالية‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬السياسة‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ ‬الكلي‭ ‬للقطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬في‭ ‬لبنان. ‬أما‭ ‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬فظاهرة‭ ‬مختلفة،‭ ‬والواقع‭ ‬أنه‭ ‬حصل‭ ‬انهيار‭ ‬مماثل‭ ‬لليرة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينات،‭ ‬لكن‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬ظل‭ ‬آنذاك‭ ‬قوياً،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الانهيارين‭ .‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لسوء‭ ‬الإدارة‭ ‬المالية‭ ‬للحكومة،‭ ‬بتركيزها‭ ‬على‭ ‬الإنفاق‭ ‬الجاري‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الاستثمار‭ ‬العام‭ .‬وتقع‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية،‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬المتضخم‭ ‬بعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬المعينين‭ ‬سياسياً،‭ ‬ونفقات‭ ‬منفوخة‭ ‬ومثقلة‭ ‬بالفساد. ‬(يتبع)


MISS 3