توفيق كسبار

دراسة معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية (الحلقة ٢)

كسبار: ينشغل السياسيون والمصرفيون بتدمير الوقائع واستبدالها بقصة "خيالية"

29 شباط 2024

02 : 00

تصوير فضل عيتاني


* القروض التي قدّمها مصرف لبنان إلى الحكومة من خارج محفظة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو اليوروبوند تساوي صفراً. وكانت الحكومة اللبنانية هي المورد الصافي بالدولار لمصرف لبنان وليس العكس!

* بشكل يومي يدفع المودعون واللبنانيون ثمن الأخطاء المشتركة، إن لم تكن الجرائم، لمصرف لبنان والمصرفيين والسلطات اللبنانية. واقتراح توزيع الخسائر هو: 40% على الحكومة و40% على المصارف، و20% على المودعين

* «الهندسات المالية» التي انتهجها مصرف لبنان، ووافق عليها مجلسه المركزي، ونفّذتها معظم المصارف التجارية عن طيب خاطر، أدّت إلى إفلاس تاريخي للقطاع المصرفي، بما فيه مصرف لبنان كما يؤكّد تقرير «ألفاريز أند مارسال»

* المصارف مسؤولة لسوء إدارتها سيولتها بالدولار وانكشافها العالي على مخاطر الإقراض بالدولار لكيان واحد وهو «المركزي» ومسؤولية المودعين ناتجة من قصورهم في تقييم المخاطر العالية التي تتحمّلها المصارف حيث يودعون أموالهم




تنشر "نداء الوطن" الحلقة الثانية من المقال التحليلي الصادر عن الجامعة الاميركية (معهد عصام فارس للسياسيات العامة والشؤون الدولية) والذي اعدّه الخبير المالي والمصرفي الدكتور توفيق كسبار عن تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي اعدّته شركة "الفاريز اند مارسال" وجاء فيه ما يلي:



في حين أن مصادر ومبالغ الأموال بالدولار التي ذهبت إلى مصرف لبنان واضحة بشكل عام، إلا أن استخداماتها ليست كذلك. إن تحديد وجهات الأموال مهمٌّ لإنهاء الجدل القائم بشأن سلوك مصرف لبنان والمصارف.

في خلال خمس سنوات، بين نهاية العام 2014 ونهاية العام 2019، تلقّى مصرف لبنان تدفّقات إجمالية بقيمة 72.5 مليار دولار، والجزء الأكبر منها، أي أكثر من 45 مليار دولار، مقترضة من المصارف. أين ذهبت هذه الدولارات؟ الإجابة في الجدول المرفق.

التفسيرات... ما هي؟

تركّز التفسيرات الشائعة عن الاستخدامات المختلفة لاحتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بين العامين 2015 و2019 على وجهتين وهما: تمويل العجز المالي للحكومة بشكل أساسي، ومن ضمنه التحويلات إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، وتمويل عجز ميزان المدفوعات.

إن تمويل العجز المالي للحكومة بالدولار من مصرف لبنان بشكل رئيس ليس دقيقًا، كما هو مفصّل في القسم التالي أدناه. أمّا التحويلات إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، فهي مدرجة بالفعل في بند «قروض الدولار الممنوحة إلى الحكومة»، كما أن المبلغ صغير نسبياً، ولا يبلغ سوى 6.7 مليارات دولار في خلال تلك الفترة، كما يرد في الجدول أعلاه. لكنّ الصورة اختلفت بعد العام 2019؛ استمرّ دعم استيراد الوقود وسلع أخرى مثل القمح والأدوية بتحويلات متزايدة من مصرف لبنان، ومن ضمنها تمويل تهريب السلع الأساسية إلى سوريا.

أما بالنسبة إلى عجز ميزان المدفوعات، فعادة ما يموّل القطاع الخاص جزءاً منه عبر الاستيراد مباشرة. وإذا افترضنا أن مصرف لبنان موّل عجز ميزان المدفوعات بالكامل، لكانت قيمة الدولارات المتبقية، بوصفها تدفّقات غير محسوبة خارجة من مصرف لبنان، تنخفض من 37.5 مليار دولار إلى 24.6 مليار دولار. ومن المرجّح أن المصارف اشترت بالليرة جزءاً من هذا المبلغ في السوق وحوّلته، مع مبالغ بالدولار لها، إلى مساهميها لا إلى حسابات المصارف المؤسّساتية، التي تظهر انخفاضاً، لا ارتفاعاً، في ودائعها بالدولار لدى المصارف المراسلة.

تتضمّن مصادر هذه التحويلات المصرفية الأرباح الكبيرة بالدولار والليرة التي تحقّقت من خلال الفوائد والعمولات السخيّة الناجمة عن «الهندسات المالية» لمصرف لبنان. ومن ثمّ، جرى تصريف أرباح المصارف والأصول السائلة الأخرى بالليرة اللبنانية في السوق المفتوحة لمصرف لبنان. ويمكن القول إن الصورة المقابلة لأرباح المصارف هي إلى حدّ كبير خسائر مصرف لبنان أو انخفاض أمواله الخاصة بما لا يقل عن 30 مليار دولار في خلال هذه الفترة.

قروض مصرف لبنان بالدولار إلى الحكومة

وأضاف: مع استمرار التركيز على الأموال بالدولار وحدها، لا بدّ من توضيح ماهية قروض الدولار التي منحها مصرف لبنان إلى الحكومة اللبنانية/وزارة المالية. بحلول نهاية العام 2019، بلغ صافي قروض الدولار المستحقّة لمصرف لبنان من وزارة المالية نحو 5 مليارات دولار فقط. ولكن دُفِعَت جميع هذه التسليفات بما يعادلها بالليرة اللبنانية من حسابات وزارة المالية في مصرف لبنان. بمعنى أدقّ، القروض التي قدّمها مصرف لبنان إلى الحكومة من خارج محفظة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو اليوروبوند تساوي صفراً.

في ما يتعلّق بسندات اليوروبوند، أطلق مصرف لبنان في الماضي، وبشكل متكرّر، عمليات تبادل مع وزارة المالية، إذ طُلب من وزارة المالية إصدار سندات يوروبوند جديدة، من دون أن تكون الحكومة بحاجة إلى هذه الأموال بالدولار. كانت عمليّات التبادل تتمّ لمصلحة مصرف لبنان فقط وبناءً على طلبه، في مقابل سندات خزينة بالليرة اللبنانية يحملها مصرف لبنان في محفظته. كان هدف مصرف لبنان بيع سندات اليوروبوند تلك في السوق لزيادة احتياطياته من العملات الأجنبية.

في خلال الفترة المُمتدّة بين العامين 2009 و2019، بلغت قيمة عمليات التبادل نحو 17.5 مليار دولار من سندات اليوروبوند الصادرة لصالح مصرف لبنان، في مقابل ما يعادلها من سندات خزينة بالليرة يحملها مصرف لبنان في محفظته. وفي خلال الفترة نفسها، حوّل مصرف لبنان بشكل منفصل مبلغ 13 مليار دولار (مموّلة بالليرة اللبنانية) إلى الحكومة لتنفيذ عمليات مختلفة. في المحصّلة، بلغ صافي جميع هذه العمليات بالدولار نحو 4.5 مليارات دولار منحتها الحكومة إلى مصرف لبنان. بمعنى آخر، كانت الحكومة اللبنانية هي المورد الصافي بالدولار لمصرف لبنان وليس العكس!

والجدير ذكره، لو أن مصرف لبنان لم يُخضِع وزارة المالية لعمليات تبادل سندات خزينة بالليرة بسندات يوروبوند بقيمة 17.5 مليار دولار، لكان مقدار دين الحكومة بالدولار سيبلغ، بعد احتساب الفوائد، نحو 5 إلى 6 مليارات دولار فقط بدلاً من 31 مليار دولار قبل الانهيار في أيلول 2019. ولكان لبنان قد تمكّن حينها من تجنّب التخلّف عن الدفع، أو الإفلاس، في الأسواق الدولية.

لبنان، السنة صفر

تحت العنوان أعلاه قال كسبار: فجأة، بحلول نهاية تشرين الأول 2019، لم يعد يُسمح للمودعين بالوصول إلى ودائعهم المصرفية. وبلغ إجمالي الودائع الخاصة في حينها نحو 169 مليار دولار (73% منها بالعملات الأجنبية، ومعظمها بالدولار)، وهو يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبنان البالغ 55 مليار دولار في العام الذي سبقه (2018). شكّل ذلك بداية سنة صفر مالية للبنان.

يمنح القانون اللبناني مصرف لبنان صلاحيات مستقلّة واستثنائية، لا تعيقها أية تأثيرات سياسية أو غيرها، من أجل تأمين الاستقرارين النقدي والمصرفي. فشل مصرف لبنان في تحقيق أي من هذين الهدفين الأساسيين. والفشل هو ذو أبعاد تاريخية، مع إفلاس شبه كامل للقطاع المصرفي وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة تصل إلى 98%.

وبمرور أكثر من أربع سنوات من اندلاع الأزمة، يواصل المودعون، وهم يمثّلون معظم سكّان لبنان ومؤسّساته التجارية، بشكل يومي دفع ثمن الأخطاء المشتركة، إن لم تكن الجرائم، لمصرف لبنان والمصرفيين اللبنانيين والسلطات اللبنانية.

الجريمة مستمرّة. لم تقدّم السلطات حتى الآن أي تفسير رسمي لذلك الانهيار المالي والاقتصادي التاريخي، ولم تتّخذ أي إجراء لمعالجته. لا شيء. والأسوأ أن المساءلة والمحاسبة لم تطالا أي مسؤول مصرفي أو سياسي. لا أحد. بل على العكس، لا يزال المسؤولون الماليون وغيرهم في مناصبهم منذ ما قبل الانهيار. وبموافقة السلطات، تستمرّ المصارف المفلسة في تأدية وظائفها «بشكل طبيعي»، وغالبيتها بالنقد، ولكنها بالفعل مصارف زومبي.

في هذه الأثناء، انشغل المسؤولون السياسيون والمصرفيون، بدعم من معظم وسائل الإعلام، بتدمير الوقائع واستبدالها بقصة بسيطة وإنّما خيالية لما حدث.

المسؤولية عن الإنهيار المصرفي

أكد كسبار أنه انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق من صنع الإنسان، هندسه أشخاص لهم وجوه وأسماء وعناوين.

ثمة سياسة مُحدّدة مارسها أشخاص مُحدّدون وأدّت إلى انهيار مُحدّد. إن سياسة «الهندسات المالية» التي انتهجها مصرف لبنان، ووافق عليها مجلسه المركزي، ونفّذتها معظم المصارف التجارية عن طيب خاطر، هي التي أدّت إلى إفلاس تاريخي للقطاع المصرفي، بما فيه مصرف لبنان. ويؤكّد تقرير «ألفاريز أند مارسال» هذا التقييم.

من الناحية العملية، يتحمّل المودعون الكلفة الكاملة للانهيار المصرفي، ويعانون من قيود صارمة على سحب الودائع ويخضعون لحسم، أو «هيركات»، كبير (يصل إلى 80%) عند تحويل ودائعهم بالدولار إلى الليرة. ومن المفهوم أن مسألة استرداد الودائع المصرفية قضية حيّة بشكل محتدم على المستوى الشعبي في لبنان. ولكن قبل اقتراح أيّ حلّ عملي، لا بدّ منطقياً بالبدء بتوزيع المسؤوليات عن الانهيار المصرفي. وتتحمّل ثلاثة أطراف هذه المسؤوليات: الحكومة والمصارف والمودعون.

يعود انخفاض سعر صرف الليرة إلى عدم المسؤولية المالية للحكومة. أما انهيار القطاع المصرفي فهو أمر مختلف ومنفصل كليّاً.

في ما يتعلّق بالانهيار المصرفي، تأتي مسؤولية الحكومة من فشلها المنهجي كسلطة رقابية، مع الإشارة إلى أن أي خسارة يتكبّدها مصرف لبنان يجب أن تغطّيها الخزينة بموجب القانون. أمّا مسؤولية المصارف فهي النتيجة المباشرة لسوء إدارتها سيولتها بالدولار وانكشافها العالي على مخاطر الإقراض بالدولار لكيان واحد وهو المصرف المركزي، وذلك خلافاً لكل معايير العمل المصرفي والمعايير الاحترازية. وتأتي مسؤولية المودعين من قصورهم في تقييم المخاطر العالية التي تتحمّلها المصارف حيث يودعون أموالهم.

بناءً على التحليل أعلاه، نقترح توزيع المسؤولية عن الخسائر المصرفية، بشكل تقريبي، وفق المعدّلات التالية: 40% على الحكومة و40% على المصارف، و20% على المودعين.


إجراءات عاجلة


من غير الواقعي أن نطلب من السلطات الحالية تنفيذ أي إصلاح جوهري، على الرغم من الدعوات المماثلة المُتكررّة من العديد من الحكومات الأجنبية والمؤسّسات الدولية، والناس بشكل عام. وحتى الآن، لم يُنفَّذ أي إصلاح جوهري، ولم يُحاسَب أي مسؤول عام أو مصرفي. تشعر السلطات السياسية، السابقة والحالية، بقلق من أن تؤدّي الإصلاحات الفعّالة إلى كشف الحقائق بشأن ممارساتها الفاسدة ومسؤوليتها عن الانهيار. في الوقت نفسه، يجري التمنّع عن تقديم أي مساعدات مالية رسمية مباشرة إلى المؤسّسات الرسمية، وهو خوف مُبرّر من أن تصبّ هذه الأموال في خدمة الأجندات السياسية والشخصية للمسؤولين الفاسدين.

تتمثّل الأهداف الرئيسة بإعادة إنشاء قطاع مصرفي يعمل بشكل طبيعي، وهو أمر ضروري لاقتصاد يعمل بشكل طبيعي، واسترداد بعض أموال المودعين. ما يلي هو الإجراءات الضرورية التي كان ينبغي تنفيذها في غضون أسابيع بعد الانهيار، وليس بعد سنوات. وتمثل هذه الإجراءات الحدّ الأدنى المطلوب وتتوافق مع القوانين اللبنانية والممارسات الدولية المعتمدة في ظروف مماثلة. ولا بدّ من تنفيذها على الفور.

1- الحجز على الأصول المحلّية والخارجية لأعضاء مجالس إدارة المصارف المفلسة فعليّاً، وأموالها الخاصة سالبة، وترفض إعادة الرسملة.

2- تحديد المستفيدين والمبالغ بالدولار المحوّلة من المصارف إلى الخارج منذ 17 تشرين الأول 2019، حين لم يعد مسموحاً للمودعين العاديين إجراء أي تحويلات.

3- دعوة المصارف الأجنبية لفتح فروع لها في لبنان، وتحفيزها بالاستفادة من إعفاء ضريبي لمدة 10 سنوات. وتنطبق الشروط نفسها على المصارف اللبنانية الجديدة.

4- تنفيذ الإصلاحات الواردة في الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي على مستوى الموظفين المُبرمة في نيسان 2022.

التدقيق الخارجي، كما يقتضي القانون، في حسابات مصرف لبنان ومؤسّسة كهرباء لبنان، وأيضاً بحسابات شركة طيران الشرق الأوسط، وهي شركة خاصّة يملكها مصرف لبنان بنسبة 99%. ونشر تقارير التدقيق.

لا يوجد وضع مالي يستحيل تصحيحه. المفتاح في لبنان، هو قبل كل شيء وجود سياسيين «شرفاء» على رأس السلطة لبدء تنفيذ العلاجات المعروفة. وعندئذ سوف يتبعها التعافي بشكل طبيعي.







المصادر: تقرير «ألفاريز آند مارسال»، مصرف لبنان، وزارة المالية.


ملاحظات:

1. أصدرت وزارة المالية سندات اليوروبوند بناءً على طلب من مصرف لبنان وحصرًا له، في مقابل استبدالها بسندات خزينة بالليرة اللبنانية يحملها مصرف لبنان في محفظته.

2. تشمل أصول العملات الأجنبية، بالإضافة إلى احتياطيات العملات الأجنبية، جميع الأصول الأخرى بالعملات الأجنبية، على سبيل المثال سندات اليوروبوند الصادرة عن الحكومة.

تختلف بعض الأرقام الواردة في الجدول 2، وهي الأدق، عن التقديرات السابقة الواردة في (كسبار؛ 2020، 2022)، لأن تقرير «ألفاريز آند مارسال» الأخير يتضمّن بيانات مُدققة تنشر للمرّة الأولى.


MISS 3