ديفيد شينكر

الانسحاب من العراق قد يكون أفضل خيار تتّخذه الولايات المتحدة

2 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

خلال جنازة في بغداد لخمسة مسلحين قتلوا في غارة أمريكية في شمال العراق | 4 أيلول 2023

ردّاً على مقتل ثلاثة جنود أميركيين في الأردن في أواخر كانون الثاني، أطلقت الولايات المتحدة مجموعتَين من الضربات الجوية ضد ميليشيات مدعومة من إيران في العراق خلال شباط. انتقد البعض في واشنطن تلك الضربات باعتبارها استعراضية، لكنها تعكس اختلافاً واضحاً عن سياسة ضبط النفس التي تعتمدها إدارة بايدن منذ وقتٍ طويل للتعامل مع القوات التابعة لإيران في العراق.

قد يكون استهداف عملاء إيران في العراق قراراً طال انتظاره، لكنه يترافق مع تداعيات سياسية كبرى في بغداد ولا تزال عواقبه على الوجود العسكري الأميركي في العراق مجهولة.



منذ هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 تشرين الأول، تعرّضت القوات العسكرية والبعثات الديبلوماسية الأميركية في العراق وسوريا للهجوم بمعدل 180 مرّة، على يد ميليشيات مدعومة من إيران وتابعة لقوات «الحشد الشعبي» التي تشمل أكثر من 75 جماعة شبه عسكرية وتُعتبر جزءاً من الجيش العراقي. في محاولة لمنع تصعيد الوضع مع طهران وتجنب أي تعقيدات ديبلوماسية مع بغداد، لجأت إدارة بايدن إلى ضبط النفس رغم كل ما يحصل. اقتصر ردها على استهداف مواقع في سوريا. لكن في 2 شباط، استهدفت القوات الأميركية 85 موقعاً في العراق وسوريا، بما في ذلك قاعدتان عسكريتان في محافظة الأنبار العراقية، كما أنها اغتالت زعيماً بارزاً في «كتائب حزب الله» عبر اعتداء بطائرة مسيّرة في وسط بغداد. أثارت الضربات الأميركية ردود أفعال قوية من الأصدقاء والخصوم في العراق، ودان قادة الميليشات وحلفاء إيران داخل العراق تلك العمليات طبعاً.

لكن كانت مواقف الحكومة العراقية التي تستنكر التحركات الأميركية قوية بالقدر نفسه. اعتبر مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، العمليات الأميركية في 2 شباط «عملاً عدوانياً ضد سيادة العراق»، ووضع عناصر «الحشد الشعبي» الذين قُتِلوا على يد الأميركيين بسبب دورهم في مهاجمة القوات الأميركية في خانة «الشهداء». كذلك، زار السوداني رجال الميليشيات المصابين في المستشفى، وتمنى لهم الشفاء العاجل، وأعلن الحداد في البلد طوال 3 أيام.

في الوقت نفسه، أصدرت الحكومة العراقية بياناً عبر «تويتر» تتّهم فيه القوات الأميركية والتحالف الدولي المضاد لتنظيم «الدولة الإسلامية» «بتهديد الأمن والاستقرار في العراق». كذلك، أعلن المتحدث باسم الجيش العراقي اللواء يحيى رسول، أن التحركات الأميركية التي «تُهدد السلام المدني» قد تجبر الحكومة العراقية على «إلغاء مهمّة هذا التحالف» الذي «يجازف بتوريط العراق في دوامة من الصراعات». تكرر هذا النوع من المواقف من جانب كتلة «الإطار التنسيقي» التي يرأسها السوداني وتحظى بدعم إيران، فقد طلبت هذه الأخيرة من الحكومة أن تضع حداً لوجود التحالف الدولي.

لا تُعتبر المطالبات بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق جديدة. منذ أن أطلقت إدارة ترامب حملة الضغوط القصوى ضد إيران في العام 2018 ثم تعرّضت «الدولة الإسلامية» في العراق للهزيمة ميدانياً في العام 2019، بدأت ميليشيات «الحشد الشعبي» تستهدف العناصر الأميركية في العراق على أمل أن تدفعها إلى الانسحاب. لطالما كانت وتيرة الاعتداءات التي تستهدف الأميركيين متقلبة (بلغت ذروتها بعد اغتيال قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني، ثمّ تراجعت بعد تغيير تصنيف القوات الأميركية من وحدة «قتالية» إلى قوات «للتدريب والتجهيز»)، لكن تبقى هذه التهديدات قائمة.

طوال هذه الفترة، أصبحت سلامة الجنود الأميركيين المنتشرين في العراق بدعوة من الحكومة العراقية، كجزءٍ من التحالف الدولي ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية»، مُهددة بسبب الميليشيات وجمود الحكومة العراقية التي لا تبدي استعدادها لحماية الموظفين الأميركيين أو تعجز عن حمايتهم. إنه وضع مبرر للأسف. لا يتلقى عناصر ميليشيات «الحشد الشعبي» رواتبهم من الحكومة العراقية فحسب، بل يجلس عدد من أعضاء تلك الميليشيات مع الائتلاف الحكومي الذي يقوده السوداني باعتبارهم شركاء سياسيين، بما في ذلك منظمات تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية مثل «عصائب أهل الحق».

في الشهر الماضي، أعلن السوداني أن حكومته ستبدأ قريباً مفاوضات مع واشنطن لإنهاء وجود قوات التحالف في العراق. لم يتّضح بعد ما إذا كان السوداني يفضّل انسحاب تلك القوات أو أن تصريحه يهدف بكل بساطة إلى تهدئة الأحزاب الغاضبة داخل الائتلاف الشيعي الحاكم. منذ سنة واحدة فقط، عبّر السوداني عن قلقه من وصول مظاهر الإرهاب من سوريا، حيث تنشط بقايا «الدولة الإسلامية». لا شك في أن الحرب الإسرائيلية ضد «حماس» وأحدث ضربات جوية أميركية في الأراضي العراقية زادت الكلفة السياسية التي يتحملها السوداني بسبب دعمه لاستمرار وجود قوات التحالف.

لكن إذا كان السوداني لا يريد بقاء القوات الأميركية في العراق، يبدو أنه يستعمل طريقة غريبة للتعبير عن موقفه. في كانون الأول، أشادت السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوفسكي، بالسوداني وإدارته بعد القبض على ثلاثة أفراد مسؤولين عن هجوم صاروخي ضد السفارة الأميركية. كانت تلك الحادثة من الحالات النادرة التي يُقدِم فيها السوداني على اعتقال مرتكبي أعمال العنف ضد الأميركيين.

إنتقد السوداني الضربات الأميركية الأخيرة في العراق، لكن يبدو أنه لا يحمل الموقف نفسه من قوات «الحشد الشعبي»، أي موظفي الدولة الذين يستهدفون الجيش الأميركي وطاقمه المدني منذ سنوات، بما يتعارض مع توجهات بغداد. يضع القانون العراقي هذه الاعتداءات غير المبررة من جانب «الحشد الشعبي» في خانة الجرائم في الحد الأدنى، حتى أنها تنتهك سيادة العراق لأن تلك الميليشيات تنفذ أوامر إيران. ورغم تردد الحكومة في التحرك لمعالجة الوضع بسبب خوفها من التكاليف السياسية المترتبة عليها أو من الردود الإيرانية المحتملة، لا يمكن اعتبار قتلة الجنود الأميركيين محصنين ضد الأعمال الانتقامية لمجرد أنهم يعيشون في الأراضي العراقية وينجون من محاسبة السلطات المحلية.

تكبدت الولايات المتحدة خسائر بشرية ومادية في العراق، ولا تزال واشنطن تهتم بوضع الدولة العراقية حتى الآن. في شهر شباط، حدّد البرلمان العراقي موعد جلسة للتصويت على استمرار الوجود الأميركي، لكن لم يكتمل النصاب لعقد الاجتماع. قد تقرر بغداد في نهاية المطاف أن الوقت حان لرحيل القوات الأميركية وحلفائها. قد يتخذ العراق هذا القرار ويسيطر على تهديدات «الدولة الإسلامية» المستمرة بنفسه. لكن حتى لو لم ترغب حكومة السوداني في انسحاب قوات التحالف، من الواضح أن الوجود العسكري الأميركي لا يمكن أن يستمر.

بعد عشرين سنة على غزو العراق، حان الوقت كي تفكر إدارة بايدن بأفضل طريقة لتقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق. لا تستفيد الولايات المتحدة من وجودها هناك للتصدي للنفوذ الإيراني المتوسع في بغداد أو قطع خط الاتصال بين طهران و»حزب الله» في لبنان. تُستعمل القوات الأميركية في كردستان العراق كصلة وصل لنقل الدعم اللوجستي ومحاربة عناصر «الدولة الإسلامية» في سوريا، لكن قد لا يعود هذا الوجود العسكري ضرورياً إذا سحبت واشنطن وحدتها العسكرية الصغيرة من سوريا. وإذا بقيت القوات الأميركية في سوريا، قد تتمكن واشنطن من ترك وحدة صغيرة في إقليم كردستان العراق لدعم هذه البعثة المُعدّة لمكافحة الإرهاب.

خارج الوحدة المنتشرة في كردستان، تتراجع منافع الوجود العسكري الأميركي المستمر في العراق. ستتأثر الصدقية الأميركية سلباً إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق وسط اشتباكات مسلحة أو بطريقة متسرعة وفوضوية كما حصل في أفغانستان. كذلك، قد يرسّخ الانسحاب من العراق مفهوماً إقليمياً خبيثاً عن الخطط الأميركية لتقليص وجودها العسكري بهدف التركيز على محور آسيا. الأسوأ من ذلك هو تعريض السفارة الأميركية الضخمة في بغداد لمخاطر الاعتداء في حال غياب أي قوات أميركية مجاورة. يطرح هذا الاحتمال مخاوف كبرى لأن الحكومة العراقية تميل إلى تجاهل واجبها المرتبط بالدفاع عن المقرات الديبلوماسية بموجب اتفاقية جنيف.

لكن تُعتبر عملية التحالف ضد «الدولة الإسلامية» في العراق منتهية راهناً، ولا تبذل القوات الأميركية جهوداً كبرى لمنع إيران من متابعة تقدّمها وصولاً إلى فرض سيطرتها على العراق. في غضون ذلك، تشكّل القوات الأميركية المنتشرة في العراق أهدافاً محتملة لإيران والميليشيات المحلية التابعة لها، ما يعني أنها قد تصبح رهينة لديها. قد تسمح أي وحدة محدودة ودائمة بتقليص هذه المخاطر، تزامناً مع الحفاظ على قدرات كافية إذا قرر الجيش العراقي أن يتابع التحركات العسكرية الثنائية، بما في ذلك التدريبات العسكرية الروتينية.

قد يسمح إبعاد معظم القوات الأميركية عن مصادر الخطر في العراق بتحسين مكانة واشنطن إزاء الحكومة العراقية التي تسيطر عليها إيران، لا سيما إذا بقيت القوات العسكرية في كردستان حيث تحظى الولايات المتحدة بالترحيب حتى الآن. حين تتخلص واشنطن من الأعباء المرتبطة بسلامة قواتها العسكرية، ستصبح أكثر قدرة على التواصل مع العراق في شأن علاقته مع إيران، وانتهاك العقوبات المفروضة، واستفحال الفساد. لا يزال استقرار العراق وسيادته جزءاً من أولويات الولايات المتحدة، لكن ستضطر واشنطن للاتكال على أدوات أخرى من القوة الوطنية، لا سيما أوراق الضغط الاقتصادية، لتحقيق مصالحها في العراق خلال المراحل المقبلة. بعبارة أخرى، لن يكون تقليص نطاق الوجود العسكري الأميركي في العراق أو تخفيضه بوتيرة تدريجية مرادفاً لإنهاء التعاون العسكري بين الأميركيين والعراق، أو انحسار الوجود الأميركي الإقليمي، أو الرضوخ للهيمنة الإيرانية في المنطقة.

MISS 3