جون كامبفنر

عودة بريطانيا إلى الساحة العالمية أصبحت وشيكة

5 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

زعيم حزب العمال ستارمر خلال المؤتمر السنوي للحزب في ليفربول - انكلترا - 27 ايلول 2022

في ظل وفرة التوقعات التي تفترض أن العام 2024 سيشهد موجة ثانية من الشعبوية اليمينية الجارفة، قد يكبح بلد واحد هذه النزعة. بحلول نهاية هذه السنة، قد تصبح بريطانيا الدولة الوحيدة التي يسطع فيها نجم الوسطية المدروسة، فيعود الحُكم الرشيد إلى الواجهة هناك ويستعيد البلد نفوذه العالمي مجدداً. نحن نتكلم هنا عن بريطانيا التي اعتُبِرت في السنوات الأخيرة «البلد المهرّج» أو «جزيرة الحفلات»، حين بلغت مظاهر انتهاك قواعد «كورونا» ذروتها في عهد رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون.

لكن لن تتحقق تلك الأهداف إلا إذا فاز كير ستارمر، زعيم «حزب العمال» البريطاني، في الانتخابات العامة المقبلة التي ستحصل على الأرجح في أي مرحلة قبل نهاية كانون الثاني 2025، مع أن معظم السياسيين والمحللين يظنون أنها ستحدث في النصف الثاني من هذه السنة. لطالما أظهرت استطلاعات الرأي تفوّقاً واضحاً لحزب المعارضة، بفارق 20 نقطة مئوية تقريباً، ما يعني أن النتيجة قد تتراوح بين انتصار ساحق وفوز مريح.

يعارض ستارمر كل من يتوقع هذه النتيجة في محيطه مشيراً إلى أداء «حزب العمال» المريع في السنوات الأخيرة. هو يُذكّر نواب حزبه بأن رئيس الوزراء السابق توني بلير وحده نجح في الوصول إلى السلطة خلال نصف قرن. حصل ذلك في العام 1997. يجب أن نعود قبله إلى أسماء مثل هارولد ويلسون في العام 1964 ثم 1974. عملياً، لا يمكن التأكيد على بلوغ نتيجة منطقية في هذا البلد، نظراً إلى نزعة الناخبين البريطانيين إلى اتخاذ قرارات لا تخدم مصالحهم الخاصة (يكفي أن نتذكر استفتاء «بريكست» في العام 2016 وفوز جونسون في العام 2019).

كان ريشي سوناك يفتقر إلى مقاربة واضحة، وهو خامس رئيس وزراء من حزب المحافظين منذ استفتاء «بريكست» في العام 2016. يتمسك هذا الأخير بأمل بعيد المنال، كأن يضمن فوزاً شبه مستحيل إذا طرح الاستحقاق الانتخابي المرتقب وكأنه «معركة القوارب الصغيرة» التي تشبه معركة «دنكيرك»، ما يعني أن يصبح استفتاءً حول قضية واحدة: الهجرة. تكشف استطلاعات الرأي أن خططه التي تمرّ بالبرلمان في الوقت الراهن وتقضي بترحيل طالبي اللجوء لا تُحقق النتائج المرجوة، لكن يبدو أنه لا يملك حلولاً أخرى.

في المقابل، لا يُعرَف ستارمر بحيويته الفائقة. هو يعمد إلى إضعاف السياسات التي يمكن اعتبارها متطرفة كجزءٍ من مهمّته الأساسية التي تقضي بتحقيق الفوز بأي ثمن. في غضون ذلك، يتعرّض المرشحون البعيدون كل البعد عن المثالية للرفض.

لا يتوقع عدد كبير من المحافظين البقاء في مناصبهم، ويعمد الكثيرون إلى الانسحاب من البرلمان لتجنب الهزيمة. لجأ بعضهم إلى مِهَن أخرى بحثاً عن مجالٍ يهمّهم بعد ترك عالم السياسة. ستكون مراقبة مدى قدرة البعض على استلام مهنة بارزة عملية مثيرة للاهتمام.

لكن حتى لو دخل ستارمر إلى مقر رئيس الوزراء يوماً ونقل حزب المحافظين إلى صفوف المعارضة للمرة الأولى منذ 15 سنة، لن يكون هذا الحدث نقطة تحوّل في تاريخ المملكة المتحدة.

لن تتكرر أحداث العام 1997 الذي سبق بدء الألفية الجديدة، حين أعلن بلير أن «الأوضاع تتجه إلى التحسن حتماً». كانت بريطانيا، زعيمة أوروبا، الجهة التي يرضخ لها الآخرون. تملك الحكومة المرتقبة بقيادة «حزب العمال» أموالاً طائلة ونوايا حسنة على الساحة الدولية. لكن لن يحصل التحول الجذري المتوقّع الآن.

يوحي ستارمر بأجواء تفاؤلية حذرة بدل أن يبث الحماس في نفوس داعميه. هو ليس رجلاً استعراضياً بطبيعته، بل سيكون زعيماً يختبر الأوضاع في كل مرحلة قبل التحرك. تبقى هذه المقاربة أفضل من الوضع الذي اضطر البريطانيون للتعامل معه سابقاً. بعد التهريج الذي طغى على أحداث الفترة الأخيرة، سيرحّب الجميع حتماً بأي شكل من العقلانية داخلياً وخارجياً.

ما هو الدور الذي ستتولاه المملكة المتحدة إذاً في أوروبا حيث تواجه السياسات المعتدلة تهديداً وجودياً؟ يمكن تقييم الوضع على مستويَين: العلاقة الرسمية مع الاتحاد الأوروبي، وعلاقة البلد مع القارة الأوروبية والغرب ككل.

يخطط ستارمر لاتخاذ خطوات معيّنة على أمل أن تُمهّد لشكلٍ من التقارب مع الاتحاد الأوروبي. من المتوقع أن تُفرَض تعديلات على صلة بالقواعد البيطرية، والاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، وتبادل الطلاب. بعبارة أخرى، ستكون هذه الخطوات مهمة لكنها لن تشكّل إنجازاً حقيقياً على المدى القصير أو المتوسط.

بحلول نهاية هذه السنة، سيواجه الاتحاد الأوروبي اضطرابات فائقة بسبب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وأصدقاء جدد من المنتظر أن يُنتخبوا قريباً. سيترافق هذا الوضع مع آثار متناقضة. كلما تلطخت سمعة بروكسل، ستتلاشى الضغوط التي يتعرّض لها ستارمر من مؤيدي الاتحاد الأوروبي في أوساطه الخاصة كي يكثّف تحركاته ويُسرّعها لإطلاق مرحلة ثانية من التحسينات داخل مؤسسات الاتحاد.

لكن من المتوقع في المقابل أن تزيد جهوزيته للمشاركة في محاربة المشكلات المتنوعة التي تواجهها أوروبا، لا سيما إذا فاز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية المقبلة التي يُفترض أن تحصل قبل أسابيع من الانتخابات البريطانية. من المنتظر أن يعلو صوت بريطانيا أكثر من أي وقت مضى في ملفات تتراوح بين أوكرانيا (إنه الملف الوحيد الذي زاد احترام الآخرين لبريطانيا منذ بدء الغزو الروسي في العام 2022، نظراً إلى دعمها المتواصل لكييف)، والشرق الأوسط، والصين، ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ.

ربما يسعى صانعو السياسة إلى الفصل بين مسائل السياسة الخارجية والسياسات الداخلية، لكن تعثّر الأداء البريطاني الديبلوماسي بسبب مواقف البلد الرنانة وغير الجديرة بالثقة، لا سيما في عهد جونسون.

يُفترض أن يتغير هذا الوضع في عهد ستارمر. قد يتردد هذا الأخير في محاولة إضفاء طابع مؤسسي على تعاون بلده مع الاتحاد الأوروبي (وتتردد بروكسل بالقدر نفسه في منح المملكة المتحدة أي «مكافآت» عشوائية إذا بقيت خارج الاتحاد)، لكن لا مفر من تحسّن العلاقات القائمة. من المتوقع أن تضع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، اسم ستارمر على لائحة الاتصال السريع.

على مستوى العلاقات الثنائية، يبدو ستارمر أكثر قوة منذ الآن، فقد طوّر علاقات ودّية مع المستشار الألماني أولاف شولتز، وسبق وعُقِدت بعض الاجتماعات، ووُضِعت خطط لإبرام اتفاق أمني جديد وصفقات أخرى خلال الأشهر الأولى التي تلي تغيير الحكومة. كذلك، بدأت العلاقات تتطور مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

على صعيد آخر، سيبحث ستارمر عن حلفاء حيثما يستطيع إيجادهم، بما في ذلك رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك ونظيره الإسباني بيدرو سانشيز، مع أن هذين المسؤولَين قد يجدان صعوبة في التمسك بالسلطة.

لكن يسهل أن يواجه ستارمر موقفاً غريباً فور وصوله إلى السلطة، فهو سيجذب الاهتمام لمجرّد أن يكون الزعيم اليساري الوسطي الوحيد الذي يأتي من بلد أوروبي بارز ويملك حكومة غالبية. في بولندا، يخوض دونالد توسك معركة شرسة لضمان صموده. كذلك، انضمت إيطاليا إلى بلدان أخرى بدأت تدعم اليمين المتطرف. يشعر الرئيس الفرنسي ماكرون من جهته بالقلق من القوميين الشعبويين بقيادة مارين لوبن. من المتوقع أن يخضع ستارمر للتدقيق والدراسة، لا لتقييم قدرته على استرجاع صدقية المملكة المتحدة فحسب، بل لمعرفة مدى استعداده لتقديم حلول اجتماعية ديموقراطية للاضطرابات الاقتصادية، والانقسامات الاجتماعية، وأزمات الهجرة والمناخ، وعدد كبير من المشكلات الأخرى التي تواجهها أوروبا.

يريد نظراؤه أن يعرفوا ما إذا كان يتمتع بمواصفات أخرى، إلى جانب الثبات والصدقية. تثبت الأحداث التاريخية دوماً أن اليسار الوسطي يواجه مشكلة لا يتعامل معها اليمينيون. في العام 1997، كان بلير يملك غالبية قوية وقد وَرِث موازنة سليمة وبلداً متفائلاً نسبياً. لكنه كان يتردد في أخذ المجازفات، باستثناء قراره المريع بالتدخل في العراق. هو يندم اليوم على حذره في تلك المرحلة.

يسهل أن يصطدم ستارمر بالاضطرابات إذا كان حذره مفرطاً. ستبدأ المشكلات التي بقيت في خلفية الأحداث حتى الفترة الأخيرة (الهجرة، الحروب الثقافية) بملاحقته في اليوم الذي يلي فوزه. من المتوقع أن يحتشد الشعبويون ويستغلوا كلّ نقاط ضعفه.

سيكون حجم الغالبية المتوقعة في حكومة ستارمر بالغ الأهمية. هو بأمسّ الحاجة إلى ولايتَين، فيبدأ ولايته الأولى بثبات ثمّ يطلق خطواته الجذرية في ولايته الثانية. يظنّ آخرون أن حذره المفرط ليس تكتيكاً بحد ذاته، بل إنه جزء من شخصيته ولا مفر من أن يصبح سلوكاً نموذجياً في عهده.

إذا تبيّن في نهاية المطاف أن ستارمر سيكون مجرّد بديل موَقّت يعجز عن وقف المدّ الشعبوي المتواصل، ستصبح فرص المملكة المتحدة على المدى الطويل قاتمة على نحو استثنائي. في أسوأ الظروف، قد يشهد البلد انتخابات عامة بحلول العام 2029، حيث يُحقق حزب المحافظين المتمسك بنزعته الإيديولوجية انتصاراً ساحقاً بقيادة سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية السابقة، أو حتى نايجل فاراج الذي يعشق ترامب.

لن يصبح ستارمر إذاً مجرّد رئيس حكومة في بلد واحد، بل حامل لواء الديموقراطية الاجتماعية الناضجة في أنحاء أوروبا. لا مفر من أن يترافق نجاحه أو فشله مع تداعيات تتجاوز حدود بلده.

MISS 3