ديريك غروسمان

سلبيات وإيجابيات سياسة بايدن في جنوب شرق آسيا

المصدر: test sgdfkahsdjha adh

الرئيس الأمريكي جو بايدن مع نظيره الإندونيسي جوكو ويدودو في خلال قمة مجموعة العشرين في بالي | إندونيسيا، 15 تشرين الثاني2022

منذ وصول جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية في العام 2021، أعطت إدارته الأولوية لزيادة فاعلية الاستراتيجية الخاصة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ وتسهيل التنافس مع الصين، لا سيما في جنوب شرق آسيا. لكن بعد مرور ثلاث سنوات، لم تُحقق الإدارة الأميركية هذا الهدف إلا بشكلٍ جزئي. عمدت واشنطن إلى تقوية عدد من شراكاتها الثنائية الأساسية، لكنها أهملت شراكات أخرى في الوقت نفسه. ونظراً إلى حجم الروابط التجارية والاستثمارية الصينية مع جنوب شرق آسيا، تفتقر الإدارة الأميركية حتى الآن إلى خطة اقتصادية شاملة للتعامل مع هذه المنطقة.



تتعدد الخطوات الإيجابية التي اتخذتها إدارة بايدن. في شباط 2022، زار وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الفيليبين، وأعلن عن زيادة عدد القواعد العسكرية هناك بموجب «اتفاقية التعاون الدفاعي المُعزز» التي وقّع عليها البلدان في العام 2014، لكن توسّع نطاقها الآن وباتت تسمح للجيش الأميركي بإرسال المعدات مسبقاً، وإنشاء البنى التحتية، والتحرك موَقتاً من 9 قواعد في الفيليبين. بشكل عام، لم يسبق أن بدا اصطفاف مانيلا مع واشنطن قوياً بقدر ما هو عليه اليوم.

في أيلول 2023، زار الرئيس الأميركي جو بايدن فيتنام لرفع مستوى العلاقات بين البلدين رسمياً وتحويلها من «شراكة شاملة» إلى «شراكة استراتيجية شاملة». إنها الشراكة الأعلى رتبة بين فيتنام وأي قوة خارجية، وهي تساوي بأهميتها علاقة هانوي مع الصين. قد يكون هذا الاتفاق رمزياً بطبيعته، لكنه يبقى تاريخياً. في النهاية، كانت الولايات المتحدة وفيتنام الشيوعية عدوتَين في السابق، ولم يعمد البلدان إلى تطبيع العلاقات بينهما قبل العام 1995، ثم طغى الحذر على هذه العلاقة الثنائية منذ ذلك الحين.

على صعيد آخر، زادت إدارة بايدن اهتمامها بأندونيسيا في العام 2023. في شهر تشرين الثاني، رفعت الولايات المتحدة وأندونيسيا مستوى علاقتهما إلى مرتبة «الشراكة الاستراتيجية الشاملة»، وأُعلن عن هذه الخطوة خلال زيارة الرئيس الأندونيسي جوكو ويدودو إلى البيت الأبيض. وعندما كان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مجتمعاً مع وزراء دفاع رابطة دول جنوب شرق آسيا في جاكارتا، في تشرين الثاني، وقّع البلدان أيضاً على اتفاق تعاون دفاعي. لم تتّضح تفاصيل ذلك الاتفاق بعد، لكن يبدو أن الولايات المتحدة وأندونيسيا تسعيان إلى توثيق تعاونهما الأمني على مستويات متنوعة يمكن استعمالها للتصدي للصين، بما في ذلك المجال البحري.

في غضون ذلك، تتابع سنغافورة ضمناً السماح للولايات المتحدة بالوصول إلى قاعدة «شانغي» البحرية في مضيق ملقا المهم استراتيجياً، فهو يربط بين المحيطَين الهندي والهادئ ويُعتبر أهم حبل نجاة تجاري فردي بالنسبة إلى الصين. كذلك، تشارك سنغافورة في تدريبات عسكرية متنوعة مع القوات الأميركية وحلفائها وتدعم مبادرات واشنطن الأمنية المصغّرة في المنطقة، مثل الحوار الأمني الرباعي المؤلف من أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة، أو اتفاق «أوكوس» الذي يشمل أستراليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، حتى لو لم تنضم سنغافورة إلى هذه المبادرات رسمياً.

في المقابل، يبقى أداء إدارة بايدن باهتاً خارج هذه البلدان الأربعة.

لا تتفق الولايات المتحدة وتايلاند على طريقة التعامل مع الصين مثلاً، إذ يعتبر الأميركيون بكين مصدر تهديد، بينما تحتفظ بانكوك بنظرة أكثر إيجابية عن الصين. كذلك، تحمل إدارة بايدن على الأرجح بعض المخاوف من وضع الديموقراطية الهش في تايلاند.

في كمبوديا ولاوس، يظن فريق بايدن على ما يبدو أن هذين البلدين يقعان في محور الصين الاستراتيجي بشكلٍ مباشر. لكن قد يكون هذا التقدير خاطئاً، إذ يمكن حصد بعض المنافع عبر تحدّي بكين في محيطها، وقد تترافق هذه الخطوة مع تداعيات استراتيجية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.

في الوقت نفسه، لم تُعْطِ إدارة بايدن اهتماماً كبيراً لماليزيا. يتعلق جزء من السبب بتركيز كوالالمبور المفرط على شؤونها الداخلية، لكن ترتبط أسباب أخرى أيضاً بمخاوف ماليزيا من أن تصبح عالقة في المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين. عارضت ماليزيا مثلاً اتفاق «أوكوس» بقوة، فزعمت أن ذلك الترتيب الأمني سيطلق سباق تسلّح ويُهدد السلام والاستقرار في المنطقة. ومنذ بداية الحرب بين إسرائيل وحركة «حماس»، دانت ماليزيا إسرائيل ودعمت «حماس» صراحةً، فأصبحت العلاقات الأميركية - الماليزية أكثر تعقيداً.

أخيراً، لا تستطيع إدارة بايدن أن تعلن نجاحها في معالجة واحدة من أكثر المسائل الداخلية إلحاحاً في جنوب شرق آسيا: الحرب الأهلية المستمرة في ميانمار. منذ بدء الانقلاب العسكري هناك في شباط 2021، فرضت واشنطن عقوبات متعددة على البلد، واستهدفت في الفترة الأخيرة قطاع النفط والغاز المحلي. تلك العقوبات دفعت النظام إلى تعميق التزاماته مع الصين. تفيد التقارير مثلاً أن ميانمار تساعد الصين على بناء مركز تنصّت قبالة جزيرة كوكو الكبرى، وقد تترافق هذه التطورات مع تداعيات عسكرية على العمليات الهندية في جزر أندامان ونيكوبار.

في المراحل المقبلة، يُفترض أن تجد واشنطن المقاربة المناسبة لتعديل طريقة معاقبتها للنظام عبر التواصل معه. قد تسمح إدارة بايدن للدول الواقعة في شرق ميانمار وغربها، لا سيما الهند وتايلاند، بأخذ المبادرات الديبلوماسية. يُعتبر هذان البلدان صديقَين للولايات المتحدة وسبق وبدآ التفاوض مع النظام. في ما يخصّ الهند، تتعدد المخاوف المشتركة من النفوذ الصيني في ميانمار وفي أنحاء منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.

بالإضافة إلى الاكتفاء ببعض الشراكات الثنائية، تواجه إدارة بايدن تحديات من صنعها في جنوب شرق آسيا. على عكس ما حصل في العام 2022، حين أثبت بايدن حضوره عبر المشاركة في أهم الأحداث التي نظّمتها رابطة دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك القمة التاريخية الخاصة بين الطرفَين في البيت الأبيض وقمة رابطة دول جنوب شرق آسيا السنوية في كمبوديا خلال تلك السنة، من الواضح أنه تراجع عن هذه المقاربة في العام 2023. من خلال الامتناع عن استضافة قمة خاصة أخرى بين الولايات المتحدة وتلك الرابطة، بدا وكأنه ينسحب من الالتزامات متعددة الأطراف، حتى أنه أرسل نائبته كامالا هاريس إلى قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا في أندونيسيا بدلاً منه.

حتى لو لم تُعطِ هذه الأحداث نتائج بارزة، يتنبّه قادة رابطة دول جنوب شرق آسيا دوماً إلى مستوى مشاركة الولايات المتحدة ويستعملون هذا العامل لتقييم اهتمام الأميركيين بشؤون المنطقة.

الأهم من ذلك هو أن إدارة بايدن لا تزال تفتقر إلى استراتيجية اقتصادية فاعلة قد تجعل واشنطن تتصدى لتجارة الصين المتوسعة وروابطها الاستثمارية المتزايدة في هذه المنطقة الأساسية. منذ أن انسحبت إدارة دونالد ترامب من الشراكة العابرة للمحيط الهادئ في العام 2017، لم تنضمّ الولايات المتحدة في عهد بايدن إلى الشراكة اللاحقة المعروفة باسم «اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ» التي تشمل 11 عضواً، بما في ذلك بروناي، وماليزيا، وسنغافورة، وفيتنام.

يزداد الوضع تعقيداً لأن الولايات المتحدة تبقى خارج أكبر اتفاق تجاري متعدد الأطراف في العالم: «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة». تقود رابطة دول جنوب شرق آسيا هذه الشراكة، وهي لا تقتصر على الصين بل تشمل أيضاً عدداً كبيراً من أصدقاء الولايات المتحدة، بما في ذلك أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية.

إقترحت إدارة بايدن من جهتها «الإطار الاقتصادي لتحقيق الرخاء في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ»، وتعهدت بالتعاون مع عدد من البلدان لتحسين النمو الاقتصادي المستدام، والتنافسي، والعادل. من المبهر أن تنضم سبع دول من رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى تلك المبادرة، لكن يقتصر هذا الاقتراح على التفاوض ولا يُعتبر اتفاقاً بحد ذاته، ما يجعله أقل طموحاً من كلّ الاتفاقات الأخرى. لا يُسهّل «الإطار الاقتصادي لتحقيق الرخاء في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ» استفادة واشنطن من الممرات التجارية مثلاً، مع أن هذا البند هو أكثر ما تريده دول جنوب شرق آسيا من واشنطن.

يجب أن يصمّم فريق بايدن أو الإدارة الأميركية المقبلة استراتيجية اقتصادية جديرة بالثقة في جنوب شرق آسيا خلال المراحل المقبلة. اليوم تُعتبر الصين، لا الولايات المتحدة، أكبر شريكة اقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا، وقد تكون هذه العلاقات أهم مصدر للنفوذ الصيني في المنطقة. كذلك، يُفترض أن تُعمّق واشنطن شراكتها الاستراتيجية الشاملة مع تلك الرابطة وتُوسّع نطاقها. في السنة الماضية، أعلن الطرفان أنهما بصدد تنفيذ خطة عمل تمتد حتى العام 2025، لكن لم يتّضح حتى الآن دور ذلك الاتفاق في رسم معالم المنطقة لصالح الولايات المتحدة.

يبدو أن واشنطن تبنّت سياسة مبنية على الإهمال الحميد في جنوب شرق آسيا، رغم تعدد التحالفات والشراكات القوية في هذه المنطقة. لكن حتى لو اضطلعت الولايات المتحدة بدور أكثر فاعلية، لن تُحدِث على الأرجح فرقاً كبيراً إذا احتدم الصراع مع الصين، سواء ارتبط ذلك الصراع بتايوان أو بحر الصين الجنوبي. عملياً، يطبّق معظم أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا سياسة قديمة تقضي بالحفاظ على الحياد بين القوى العظمى المتنافسة. وحدها الفيليبين تتبنّى موقفاً مختلفاً على ما يبدو. في المقابل، يصعب أن نتخيّل أي منافع حقيقية من تكثيف التواصل الأميركي مع الدول الأخرى.

ما لم تندلع الحرب، تملك الولايات المتحدة خيارات أخرى للفوز في أي منافسة استراتيجية ضد الصين، إذ يمكنها أن تُهمّش بكين أو تبعدها عن المنطقة. لكن لتحقيق هذا الهدف، من الضروري أن تعيد واشنطن رسم ديناميات المنطقة مسبقاً، لا في المجال الأمني فحسب، بل عبر استعمال أقوى الوسائل الديبلوماسية والاقتصادية.