البروفسور كميل حبيب

وثيقة الأخوّة الإنسانية: رجاء جديد للسلام العالمي

9 آذار 2024

02 : 00

منذ التوقيع عليها من قبل قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب في 4 فبراير 2019، لم تزل وثيقة الاخوة الانسانية تثير اهتمام الأكاديميين والمثقفين الذين أخذوا على عاتقهم شرح مضمونها وتعميم أهميتها من خلال العديد من الدراسات والمحاضرات والندوات. وعلى الصعيد اللبناني، نذكر المساهمات التي قدمها كل من الدكتور أدونيس العكره، رئيس مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنة، والدكتور عدنان السيد حسين، الرئيس السابق للجامعة اللبنانية. ولا بد من الاشارة إلى أنّه لكلا المفكرين الباع الطويل في العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة في مجتمعاتنا العربية.

أهمية الوثيقة تنبع من كونها أعادت الاعتبار لمقاصد الدين، وأولها انسانية الانسان. ففي كتابه، «فوضى النظام العالمي»، يشير الدكتور السيد حسين إلى أنّ الوثيقة تتضمن افكاراً تأسيسيّة كمنطلق للقانون العالمي، أهمها الدعوة إلى إعادة إكتشاف قيم السلام والعدالة والمساواة والرحمة وحقوق الإنسان وثقافة الحوار والتسامح وانماء علاقات الصداقة والتعاون بين الشعوب والامم. وكل هذه الأفكار تعبّر عن نوايا صالحة وصادقة؛ لا بل تشكل خارطة طريق للأجيال القادمة توصلهم إلى «إدراك النعمة الالهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعاً إخوة».

المنطلقات الفكرية

أمّا المنطلقات الفكرية للوثيقة فتنبع من خلال توصيفها الدقيق للمشهد العالمي من دون الولوج إلى اطار التمنيات الممجوجة بعكس ما هو قائم على أرض الواقع:

اولاً، ترفض الوثيقة فوضى النظام العالمي القائم على منطق «قانون القوة لا على قوة القانون». فلا وجود اليوم لأي شكل من أشكال الانتظام العام للعلاقات بين الدول، بل استشراء للفوضى في كل مجالات الحياة الانسانية، في الأمن والسياسة والاقتصاد، لدرجة باتت معها مقولات «المجتمع الدولي»، و»الحكومة العالمية»، و»الأسرة الدولية»، مجرد أوهام لمشاريع طموحة. وأنّه لمؤسف القول إنّ الدول الناشطة على الساحة الدولية تعد نفسها باستمرار لعنف منظم على شكل حرب، أو تنخرط فيها بشكل فعال، أو تتعافى منه.

ثانياً، تدين الوثيقة سياسة افقار الشعوب بسبب الافتقاد إلى عدالة توزيع الثروات الطبيعية والتكنولوجيا الحديثة. وتشير الاحصائيات إلى أنّ 20 في المئة من سكان العالم يحصلون على 80 في المئة من مجموع الدخل العالمي. هذا يعني أنّ النسبة العظمى من سكان العالم يعتاشون على التبرعات وأعمال الخير، بينما مجتمعات الدول المتقدمة يمكنها العمل والحصول على الدخل والعيش برغد وسلام. حتى العولمة ما كانت الا تعبيراً عن طموح نحو ايجاد نظام سياسي عالمي تهيمن فيه، أو تفرض فيه، قوة وحيدة أو تحالف قوى هيمنة سياسية انطلاقاً من مصالحها العادية ونظرتها الفلسفية على أكبر قدر من دول وشعوب العالم. واستنباطاً، فإنّ الوثيقة تحمل لواء العالمية التي تعبّر عن التنوع الثقافي. فالعالمية تعني الاعتراف بالتبادل، الاعتراف بالأدوار، بحيث يكون العالم منفتحاً على بعضه البعض مع الاحتفاظ بتنوعاته.

ثالثاً، تشير الوثيقة إلى أنّ الحروب والآلام التي تعاني منها الشعوب الفقيرة ما هي إلا نتيجة حتمية لسباق التسلح. لقد ازدادت تجارة السلاح في العالم، مع ظهور أنواع جديدة من الأسلحة المتطورة والمرتبطة بالثورة المعلوماتية. ولا بأس من الاقرار بأنه من مصلحة الدول المنتجة للسلاح ان تبقى النزاعات المسلحة مشتعلة في أماكن عديدة من مناطق العالم، ولو على حساب ازهاق أرواح البشر. فالجشع في اكتساب الأرباح جعل من تجارة السلاح مورداً اقتصادياً ومالياً وجزءاً من التجارة العالمية حيث تشير آخر الاحصائيات لعام 2023 إلى أنّ الانفاق على التسلح وصل إلى ما نسبته 2.5 تريليون دولار. الخطورة في كل ذلك تكمن في أنّ منطقة الشرق الأوسط هي من أكبر المناطق استيراداً للسلاح، بدلاً من انفاق الأموال على التنمية والتقدم. ويعود السبب في ذلك إلى رفض الكيان الصهيوني الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني تقرير مصيره في إقامة دولته المستقلة وعاصتمها القدس الشريف.

رابعاً، تحذّر الوثيقة من أنّ الوجود الانساني مهدد برمته نتيجة إستشراء ظواهر الارهاب والعنصرية والتطرف، حتى أنّ بعض الدول إتخذت من شعار «محاربة الإرهاب» تبريراً لشن حروب غير مبررة دولياً. اضافة إلى ذلك، فإن طروحات «صدام الحضارات»، و»نهاية التاريخ»، و»العداء للسامية»، أعاقت مهمة مكافحة الارهاب على الصعيد الدولي. وأنه لمن المؤكد أنّ ظاهرة الارهاب لا يمكن معالجتها باعتماد الأسلوب العسكري فقط، بل في الالتفات إلى مقاربة أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أليست مفارقة استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والارهاب في العديد من الدول الشرق أوسطية.

إنّ العنف المقدس يدور في فلك الجمود والتقوقع والانغلاق، بينما العنف السياسي متحرك، ويحتاج إلى مبررات أكبر من القتال باسم الله... إنّ العنف باسم الدين غالباً ما يجد في الواقع المأزوم أرضاً خصبة للنمو والتكاثر. فالغضب الذي يختزنه الشعب المقهور من واقع التهميش الذي يتخبط فيه، يجعل هذا الشعب تواقاً لتفجير هذا الغضب، والمعطى الديني هنا هو الأكثر قدرة على اشعال فتيل الغضب وتحويله إلى عنف مدمر. ولا حاجة للتذكير أنّه من نتائج ظهور الحركات الارهابية أنها تقود إلى المزيد من إراقة الدماء حول العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

تأليه الإنسان

بالطبع، هناك العديد من الحيثيات التي دفعت قداسة البابا وشيخ الأزهر الشريف للإعلان عن وثيقة الاخوة الانسانية؛ اذ يكفى أن نشير أيضاً إلى ظاهرة بروز الفلسفات المادية التي تؤلّه الانسان، واللامبالاة في التنشئة الأسَرية السلمية، وعدم الاعتراف بحقوق المرأة والطفل والمسنين، وهذه بمجموعها صورة قاتمة تجعل الضبابية وخيبات الأمل والخوف من المستقبل تسيطر على عقول الشابات والشباب.

لكن الوثيقة هي بحد ذاتها اعلان تفاؤلي، اذ تجانب الواقع المأزوم لعالمنا المعاصر، إلا أنّها تدعو بشكل ملفت إلى «ترسيخ مفهوم المواطنة» الكامنة في مجتمعاتنا. ففي إطار المواطنة يعرّف الشعب على أنه مجموع المواطنين وليس مجموعة من الأفراد والاقليات والطوائف والعشائر، وغير ذلك من الهويات القاتلة.

وفي رأينا، فإنّ تحقيق دولة المواطنة بأبعادها الحقوقية والسياسية والاجتماعية يعتبر خطوة متقدمة نحو بناء دولة أكثر عدالة وعالماً أكثر انسانية. ومن أبرز القيم المدنية المرتبطة بمفهوم المواطنة نذكر الحرية في مواجهة الاستبداد، والمساواة في مواجهة التمييز، وتطبيق القوانين في مواجهة الفوضى، والالتزام بالمصلحة العامة في مواجهة الانانية، والمشاركة الايجابية في خدمة المجتمع، في مقابل السلبية والانعزال.

وللوصول إلى دولة المواطنة، لا بد من الإشارة إلى الجانب التربوي التوجيهي لاكتساب المواطنة والتعرف إلى قيمها بواسطة مؤسسات رسمية ومدنية. والواجب يقضي بدعوة الجامعات والمعاهد إلى تدريس الوثيقة إلى جانب ميثاق الأمم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان.

(*) العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية

MISS 3