شربل داغر

النقد... الرخيص

11 آذار 2024

02 : 00

«الكبير»، «الأكبر»، «الهرم الرابع»، «الشيخ...»، «الأرزة الخالدة»: هذه وغيرها أقع عليها تحت أقلام نقاد ودارسِين، كما لو أن الواحد منهم سلطانٌ يوزع نياشين المكانات بموازين العلم والدرس والفحص.

هذا ما لا يجده القارئ في ما كتبَه الجمحي أو الآمدي أو القرطاجني، وما لا يقع عليه في «العمدة»، و»الموازنة» وغيرها.

ما يَخفى في هذه العملية هو أن مانح اللقب يفوز بذهب مخفي في عملية التسمية: يفوز بكونه قد تربعَ، من دون تسمية أو اكتساب، فوق كرسي التنصيب، فضلاً عن كونه بات قريباً أو وصيفاً للإله البشري الذي اصطفاه.

هذه «المسايرة» ليست بغريبة في الزمن الذي نعيش فيه، ما دام هذا الزمن يميل إلى الدعاية أكثر من الدرس، إلى ما يروج أكثر مما يتم فحصه.

فالنقد بات مما لا يُنشر، ولا يَنعم بمراجعة، إذ بات الإقبال عليه محدوداً، والانتفاع منه زهيداً.

وهذا يعني، في ما يعنيه، تراجعَ الحاجة إلى البحث الجاد في الدرس الجامعي، وفي بناء مقومات ثقافة المتعلم الجامعي.

كما يعني كذلك أن الناقد بات من المروجين، من أصحاب الدعايات، وممن يستعيضون عن التفقد والتبين بحسنات التصفيق والحماسة والمنفعة الميسرة.

وليس «الفيسبوك» ببعيد عن هذا، بل يُبيحه ويدعو له بإفراط قبيح.

فالشاعر، لكي يَنشر ما كُتب عنه، يغدق على كاتب المقال عالي الصفات. هذا ما يُرضيه ويُغري صاحبَ المقال، وهذا ما تعود حسناته بالضرورة على الشاعر ضمن العملية ذاتها: الكبير الذي خصني بمقال، يجعلني أعلى كبراً، وعالي المكانة بالضرورة.

هذه الصفات، التي تطال الشاعر أو الروائي أو غيرهما، لا أجدها تُقال في فيلسوف أو مفكر، إذ إن النياشين معدودة، ومانحيها يَسخرون من هذا كله.

وهي صفات لا أجدها في مقال، أو في تدوينة أجنبية، حتى إنني أقع على ذكر سرفنتس أو شكسبير أو موليير من دون ألقاب أو صفات أو نياشين تفوّق.

هذا يعود بالتالي إلى الثقافة الاجتماعية في البلد المعني، وإلى محاسن الحظوة. فمن لا يزال متمسكاً بالألقاب السلطانية، بين «أفندي» و»بيك» وغيرها، لا تزال عيناه تتطلعان إلى بريق المكانة التقليدية ليس إلا.

ولا يزال يرى إلى الأفراد ليس بما صنعوا، بل بما كانوا عليه من التشريفات.

لهذا لا نرى، في غير هذه البلاد، ما يَجري فيها من مناسبات التكريم، ومن وفرة المكرمِين، ووفق حسابات معدودة.

هذا الاجتماع بين رنين الألقاب وشرف التكريس يَنخر الثقافة، ويُفسد الكُتاب كما النقاد، ويَجعل الأدب مادة رخيصة في سوق تبادل المنافع: فمن خصَّك بمقال أو كتاب، يحتاج إلى مقابل عنه، معنوي أو مادي.

هكذا تتنازل الثقافة عن شرف المعنى، وعن لمعان التخيل، لكي تصبح خردة في التداول، مثل كيسِ نقود أو كومةِ كلماتٍ منمقة.

MISS 3