في آب 1958، بدأ شارل ديغول الذي كان قد عاد إلى السلطة للتو في فرنسا، جولة لزيارة مستعمرات بلده في أفريقيا جنوب الصحراء. أراد بذلك أن يقترح عليها خطة للانضمام إلى فرنسا في إطار «مجتمع» جديد. كانت باريس لتتابع السيطرة على «خدمات الدولة»، بما في ذلك الدفاع، والشؤون المالية، ووسائل الإعلام، والاتصالات. في غضون ذلك، قد يسمح شكل جديد من الحُكم الذاتي شبه المحدود للبلدان الأفريقية بإدارة شؤونها الداخلية وتكبّد التكاليف التي كانت فرنسا تتحمّلها سابقاً.
لكن ترافق هذا العرض مع تحذير واضح: ستواجه أي مستعمرة ترفض هذا الاقتراح، الانفصال عن فرنسا، وتواجه كلّ العواقب المترتبة عن هذه الخطوة. أدرك العالم معنى هذا الكلام بعد فترة قصيرة. حين زار ديغول غينيا خلال الشهر اللاحق، استعمل زعيم المستعمرة أحمد سيكو توريه لهجة التحدي أمام أنظار رجل الدولة الفرنسي، فقال: «نحن لن نتخلى يوماً عن حقنا المشروع بنيل الاستقلال». هذا الموقف أثار غضب ديغول الذي عاد وألغى عشاءً كان قد خطط له مع توريه في تلك الليلة.
حين عاد ديغول إلى باريس، أمر بسحب آلاف موظفي الخدمة المدنية الفرنسيين فوراً: إنهم المسؤولون عن إدارة الشؤون البيروقراطية وتوظيف الناس في العيادات والمدارس. وقبل العودة إلى فرنسا، عمد عدد من العمال الفرنسيين إلى تحطيم المفروشات، والسجلات الرسمية، والمعدات، وحتى المصابيح الكهربائية.
قد تكون أحداث غينيا في المرحلة اللاحقة من أشهر الفصول المشينة في تاريخ الاستعمار الفرنسي وهيمنة باريس على أجزاء واسعة من أفريقيا الغربية والوسطى، لكنها مجرّد فصل بسيط من تاريخ حافل بالأحداث.
فرنسا ليست الدولة الأوروبية الوحيدة التي حكمت الأفارقة طبعاً، لكن يُعتبر تاريخها فريداً من نوعه نظراً إلى مثابرتها، وانتشارها الجغرافي، وقدرتها على التكيف مع الظروف. أدى النضال من أجل استقلال الجزائر، ثم نشوء مستعمرة فرنسية استيطانية واسعة في شمال أفريقيا، إلى إسقاط الجمهورية الفرنسية الرابعة وزيادة احتمال نشوء حرب أهلية في قلب أوروبا في العام 1958 الذي تزامن مع جولة ديغول في أفريقيا جنوب الصحراء. يتعلق السبب بادعاء خيالي أطلقه الجنرال الفرنسي المتمرد راوول سالان، حين قال إن الجزائر جزء ملموس من فرنسا أو امتداد جغرافي لها. أضاف سالان: «البحر الأبيض المتوسط يمرّ بفرنسا مثلما يمرّ نهر السين بباريس».
بعد الأحداث التي شهدتها غينيا والجزائر، حين بدأت شخصيات أخرى من الأفارقة السود تدعو إلى توسيع هامش الحُكم الذاتي بما يتجاوز عرض ديغول أو تنادي بالاستقلال الكامل، تلاحقت الكوارث التي أصابتهم. لا يتذكر الكثيرون مثلاً أن شخصاً معارِضاً للاستعمار في الكاميرون، اسمه فيليكس رولاند مومييه، اغتيل على يد عملاء فرنسيين سبقت أفعالهم أساليب فلاديمير بوتين القاتمة اليوم. عمد هؤلاء إلى تسميمه بالثاليوم المُشِعّ في جنيف في العام 1960.
بعد مرور أكثر من 60 سنة على تلك الأحداث، بدأت انتفاضة بارزة ضد النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي التي تُعتبر من أكثر المناطق الأفريقية التي شهدت هيمنة فرنسية على مر العقود. في هذه المنطقة شبه القاحلة، تكلّم قادة النيجر وبوركينا فاسو ومالي ضد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، وبدؤوا العمل على حصر وجود الجنود والديبلوماسيين الفرنسيين والمؤسسات الفرنسية في بلدانهم. هم يريدون بهذه الطريقة أن يلوموا باريس على مجموعة من المشكلات التي تتراوح بين الحملة الفرنسية التخريبية القديمة والعقيمة لاحتواء انتشار حركات التمرد الإسلامية في الساحل الأفريقي، والتدخل في الشؤون السياسية الداخلية، والاستفادة من الروابط الاقتصادية غير المتكافئة.
وفي مواقف رافضة لفرنسا، رحّبت هذه البلدان غير الساحلية، التي تُعتبر من أفقر دول العالم، بتوسع الدور الروسي أحياناً لتحسين أمنها الداخلي واستخراج ثروات معدنية مثل الذهب واليورانيوم من تربتها. سيكون هذان الهدفان متلازمَين مع روسيا، مثلما كان الوضع مع فرنسا.
ألمح هؤلاء القادة أيضاً إلى إنهاء التعاون مع فرنسا على مستوى التحكم بتدفق المهاجرين الأفارقة شمالاً عبر قطع الصحراء الكبرى نحو أوروبا. هم يناقشون منذ فترة تداعيات الاتحاد النقدي القائم واستعمال الفرنك الأفريقي الذي ابتكرته فرنسا قبل الاستقلال كطريقة لضمان استمرار الصادرات الفرنسية في المنطقة. لطالما اعتبر منتقدو الفرنك الأفريقي هذه العملة أداة لترسيخ الهيمنة الفرنسية، لأن فرنسا تطالب أعضاء الاتحاد تاريخياً بإيداع احتياطياتهم الأجنبية في الخزانة الفرنسية. حتى أن تلك الدول الثلاث بدأت تناقش فكرة إنشاء عملة جديدة وخاصة بمنطقة الساحل بدل الفرنك الأفريقي.
دعا الرئيس العسكري للنيجر عبد الرحمن تشياني، فرنسا إلى دفع تعويضات للدول الأفريقية العميلة منذ سنوات طويلة بسبب عملياتٍ وضعها في خانة «النهب». وفي بوركينا فاسو المجاورة، تعهد القائد العسكري إبراهيم تراوري بعدم السماح للأوروبيين بالسيطرة على بلده مجدّداً.
من خلال التشكيك بالعلاقات القائمة مع فرنسا، أثّرت تلك البلدان الثلاثة على ملايين الأفارقة المقيمين في مستعمرات فرنسية سابقة وأماكن أخرى، بما في ذلك دول ساحلية أكثر ثراءً، حيث لم تتضرر العلاقات الرسمية مع فرنسا حتى الآن. لكن بدأت هذه النزعة تنتشر على نطاق أوسع، وهو وضع يثير استياء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
توقّع البعض في فرنسا بلوغ هذه المرحلة. في مقابلة من العام 2007، قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، خلال آخر سنة له في السلطة: «يجب ألا ينسى أحد أن جزءاً كبيراً من الأموال التي نملكها في محافظنا يشتق من استغلال أفريقيا طوال قرون... نحن نحتاج إذاً إلى بعض المنطق، لا السخاء، بل المنطق والعدالة للتعامل مع الأفارقة وإعادة ما أخذناه منهم. إنها خطوة ضرورية إذا أردنا تجنّب أسوأ الاضطرابات والمصاعب وما يرافقها من عواقب سياسية محتملة في المستقبل القريب».
رغم كلّ الانتقادات التي تستحقها فرنسا، يجب أن نعترف بأن إرثها في أفريقيا جنوب الصحراء ليس سيئاً بالكامل. أشرفت فرنسا في مرحلة معيّنة على بناء مشاريع بنى تحتية ضخمة في مستعمراتها الأفريقية والدول التابعة لها (موانئ، سكك حديد، طرقات سريعة). لكن يتعلق جزء من حملة الغضب الراهنة تجاه هذه القوة الاستعمارية السابقة بتخليها عن هذه المشاريع الكبرى وتسليمها إلى الصين.
يتراجع عدد الدول التي تُعتبر متطورة نسبةً إلى معايير المنطقة من بين مستعمرات فرنسا السابقة، أبرزها ساحل العاج. وحتى الفرنك الأفريقي الذي يتعرض لانتقادات كثيرة لا يخلو من المنافع، وهذا ما يفسّر صموده. بقيت هذه العملة قابلة للتحويل ومستقرة نسبياً، رغم قيمتها المفرطة، بفضل استمرار العلاقة مع فرنسا ومع الاتحاد الأوروبي عن طريق باريس، وقد انعكس هذا الوضع على توازن التجارة عبر زيادة كلفة صادرات تلك الدول مقابل تراجع كلفة وارداتها، لا سيما تلك الآتية من منطقة اليورو.
لكن عند التدقيق بكامل دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يصعب ألا نشعر بأن المستعمرات الفرنسية السابقة تتبع مسار المستعمرات البريطانية القديمة بشكل عام على مستوى التنمية الاقتصادية، والحُكم الديموقراطي، والاستقرار السياسي. لا يعني ذلك أن الحُكم العسكري أو النفوذ البريطاني يستحق الإشادة، فقد تلاشت سلطة هذا البلد تدريجاً بعد الاستقلال.
لكن حتى لو أردنا التركيز على أفضل جوانب الاستعمار والرأسمالية في أفريقيا، يصعب أن نعتبر خطوات فرنسا كافية لتطوير أراضيها السابقة أو توجيهها نحو اقتصاد عالمي أكثر تكاملاً. إنه وضع منطقي بدرجة معيّنة. في أفضل الأحوال، تُعتبر فرنسا دولة متوسطة الحجم ويبقى اقتصادها متوسطاً. هذه الصفات تتعارض مع طموح باريس القديم باكتساب مكانة مرموقة في العالم عبر التمسك بمقاليد السلطة الاستعمارية الجديدة في جنوب القارة. يصبح هذا الاختلاف أكثر وضوحاً مع مرور كل سنة جديدة بسبب النمو الديموغرافي المتسارع في أفريقيا.
على مستوى معيّن، يمكن اعتبار الانتفاضة المستمرة ضد باريس في الساحل الأفريقي حيلة مبنية على الشعبوية لحماية السلطة السياسية التي تملكها النُخَب العسكرية في الدول المتعثرة منذ سنوات. لكن تدور أحداث أكثر إثارة للاهتمام في الوقت نفسه.
يطرح قادة بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، تحدياً آخر قد يترافق مع عواقب أكثر تأثيراً على المدى الطويل: هم يتحدّون بلداناً أفريقية أخرى، سواء كانت ناطقة باللغة الفرنسية أو الإنكليزية، لهدم الحواجز التي تفصل بينهم. منذ أكثر من قرن، «اقتحمت» أوروبا القارة عبر تقسيمها إلى بلدان مجزأة، فأصبح عدد منها صغيراً وغير ساحلي. يحلم الأفارقة بالوحدة الأفريقية منذ زمن بعيد. إنه طموح مفكرين أفارقة من أمثال جي إي كاسيلي هايفورد في غانا المعاصرة (الساحل الذهبي سابقاً) منذ بداية القرن العشرين. كذلك، من المعروف أن رئيس غانا الأول، كوامي نكروما، كان مهووساً بهذه الفكرة. وقد لا يتذكر الكثيرون أن هذه القضية كانت مدعومة أيضاً من بارتيليمي بوغاندا، أول زعيم لجمهورية أفريقيا الوسطى، فهو كان يأمل في جمع البلدان الناطقة باللغة الفرنسية في ذلك الجزء من القارة تحت مُسمّى «الولايات الأفريقية اللاتينية المتحدة».
الأمر المؤكد اليوم هو أن بداية أي حملة لتعزيز الازدهار والراحة بالشكل الذي يطمح له جميع الأفارقة لن تتحقق إلا عبر التخلص من هذه الانقسامات، ولا تستطيع أي جهات خارجية أن تُحقق هذا الهدف بدلاً منهم. لن يكون الغضب من فرنسا مفيداً إلا إذا تحوّل إلى محرّك لزيادة قوة الأفارقة، ما يسمح لهم بطرح عملاتهم الإقليمية، وبناء نُسَخهم الخاصة من سكك الحديد والطرقات السريعة في المناطق، وتشكيل اتحادات سياسية واقتصادية لا تكون مجرّد حبر على ورق.