إيمان درنيقة الكمالي

صراع الهيمنة: أميركا والصين في ساحة تكنولوجيا الكم

15 آذار 2024

15 : 43

في خضم التطورات التكنولوجية المتسارعة، برز صراع جديد بين الولايات المتحدة والصين، صراع مصيري قد يحدد مستقبل الهيمنة العالمية، ومسار العالم على الأقل في العقود القادمة؛ هذه المرة في ساحة تكنولوجيا الكم.


فما هي تكنولوجيا الكم التي قد تغيّر وجه العالم؟ وما علاقتها بالذكاء الاصطناعي؟ وكيف استطاعت الصين أن تتفوق في مجال من مجالات تكنولوجيا الكم؟ ولماذا يشعر الأميركيون بالرعب في الاختراقات الصينية التقنية المفاجئة؟.


تكنولوجيا الكم هي مجال معقد من الفيزياء يَعتمد على استخدام جسيماتٍ أصغر من الذرة واستغلال مبادئ ميكانيك الكم، لتطوير أدوات وأجهزة قوية لها قدرات مذهلة.


وتعتمد تكنولوجيا الكم على "الكيوبت" بدلاً من "البت" كعنصر أساسي في الحسابات. فبينما يمكن للبت أن يكون إما 0 أو 1 فقط، يمكن للكيوبت أن يكون في حالة 0 و 1 في نفس الوقت؛ ما يمنح أجهزة الكمبيوتر الكمومية قدرة هائلة على إجراء حسابات معقدة بسرعة فائقة.


تُستخدم تكنولوجيا الكم في العديد من المجالات، منها: "الحوسبة الكمومية" التي تؤدي إلى حل مسائل معقدة كفك التشفير بشكل أسرع بكثير من أجهزة الكمبيوتر التقليدية، و"الاستشعار الكمومي" الذي يسمح بالكشف عن الأشياء بدقة عالية ومن دون اشارة GPS، مثل الغواصات المختبئة في قاع البحر، و"الإنترنت الكمومية" التي تؤمّن نقل المعلومات بشكل أكثر أمانًا وسرعة من الإنترنت التقليدي.


وتُعد هذه التكنولوجيا "ثورة علمية حقيقية" تُبشر بمستقبل مليء بالإمكانيات الهائلة في كافة المجالات، بدءًا من علاج الأمراض المستعصية مثل السرطان والزهايمر، إلى تطوير بطاريات وأسمدة صديقة للبيئة، وصولًا إلى ابتكار أنظمة ذكاء اصطناعي فائقة القوة.


فإذا اعتبرنا ثورة الذكاء الاصطناعي بمثابة سيارة تعمل بوقود أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية، فسيكون استخدام أجهزة الحواسيب الكمومية بمثابة تحويلها إلى صاروخ خارق. فمع قدرات الحواسيب الكمومية الفائقة، سنشهد قفزة هائلة في إمكانيات الذكاء الاصطناعي، ناهيك عن إمكانيات ثورية لم نكن نحلم بها من قبل.


فما هي أهم إنجازات الصين في مجال تكنولوجيا الكم خلال السنوات الأخيرة؟


في خريف عام 2020، كشفت الصين عن مخططها الخماسي خلال اجتماع اللجنة المركزية 19 للحزب الشيوعي، بعد أن أطلقت العنان لطموحاتها الكمومية. وقد ركزت الخطة على تطوير سبع مجالات أساسية في العلوم والتكنولوجيا، أهمها برنامج سري أُطلق عليه اسم "كوانتوم" الذي انطلق في منشأة أبحاث ضخمة بمدينة خفي الصينية.


وقد حقق برنامج "كوانتوم"، في غضون سنوات قليلة، قفزاتٍ مذهلة هزت أركان العالم، وفوجئ الأمريكيون والأوروبيون بالتقدم الصيني المتسارع في هذا المجال، وباتت مخاوفهم من هيمنة الصين على تكنولوجيا الكم تتصاعد، خاصة مع اعلان شركة "أوريجين كوانتوم" التي تأسست عام 2017، على يد نخبة من علماء فيزياء الكم من جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينيّة USTC، أنّها نجحت في تحقيق إنجازات مذهلة كإطلاق أول خط إنتاج لرقائق الكم، ونظام تشغيل الكمبيوتر الكمّي، وأول جهاز تحكم للحوسبة الكمومية. كما أعلنت عن ظهور الجيل الثالث من الكمبيوتر الكمي الفائق التوصيل والذي تنافس فيه شركة google و IBM الاميركية، وتطوير أهم حاسوب صيني Ushang 3، استطاع أن يحل مسألة بالغة التعقيد في جزء من المليون من الثانية، وتفوّق فيها على أهم حاسوب أميركي "Frontier" الفائق التوصيل، والذي يحتاج الى وقت طويل نسبيا لينجز مثل هذه العملية.


وفي لقاء له مع علماء برنامج "كوانتوم"، وعلى رأسهم "بان جيانوي" الملقّب ب "ابو الكم" او "أبو الكوانتوم" ، شبّه الرئيس الصيني "شي جي بينغ " هذا الصراع بتحدي لعبة "غو" الصينية ذات البعد الاستراتيجي. واعتبر أن البحث في مجال الكم هو بمثابة قطعة متقدّمة على لوحة اللعب،تحدد مصير الهيمنة على التكنولوجيا في المستقبل.


ومع الكشف عن برنامج "كوانتوم" ونجاح شركة "أوريجين كوانتوم"، اندلعت حرب ضارية بين الصين وأمريكا على عرش التكنولوجيا الكمومية.


وفي شهر تشرين الثاني الماضي، بدأت لجنة تابعة للكونغرس الاميركي التحقيقات مع شركة رأسمال الاستثماري الصينية Sequoia Capital، ومع عدة شركات أخرى GGV Capital, GSR Ventures, Walden International, Qualcon بخصوص استثمار شركة الحوسبة الكمومية، واشباه المواصلات، وانظمة الذكاء الاصطناعي.


كما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر كانون الثاني، حالة طوارئ وطنية للتعامل مع التهديد بالتقدم الكمي الصيني.


ومن جهة أخرى، أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية الأميركية ورقة بحثية هزّت أركان المؤسسة الأمريكية، إذ أكدت أن الولايات المتحدة متخلّفة بشكل خطير عن الصين في هذا المجال.


فعلى الرغم من فرض أميركا حصاراً على المواد التكنولوجية الكمومية لمنع وصولها إلى الصين، إلا أن الصين نجحت في تحقيق تقدم هائل في تكنولوجيا الكم، وتأمين مكانة متقدّمة في هذا المجال، وذلك بسبب حجم الانفاق الكبير لتمويل الأبحاث في مجال تكنولوجيا الكم، والذي بلغ أكثر من ضعف ما تعهدت به دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة على الأبحاث، وثمانية أضعاف ما تعهدت به الولايات المتحدة. وقد أدى هذا الإنفاق الضخم إلى قفزة عملاقة في عدد من معاهد الأبحاث المتخصصة في برامج الكم، إضافة الى وضع أول برنامج دكتوراه في تقنيات الكم في البلاد.


ووفق وثيقة صادرة عن وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية، فقد أصبحت تكنولوجيا الكم أولوية قصوى للأمن القومي الصيني، لذا فهي تسعى الى تركيز الموارد وتحقيق اختراقات تقنية هائلة تمكنها من الريادة في هذا المجال بحلول عام 2027.


كذلك نشرت صحيفة "ديبلومات" Diplomat الاميركية مقالًا عن السباق الكمومي، يؤكد أن من ياتي أوّلاً، هو الذي يمتلك كل الأدوات والتقنيات للتغلب على الخصوم، ويستطيع بالتالي أن يكسر التشفير الكمي؛ أمّا من يأتي ثانياً فسيخسر حتما ".


في الختام، لا شك أن الصين هي "الكابوس" أو "الفوبيا" التي تعاني منها اميركا لدرجة تدفعها الى عزل الصين من خلال فرض قيود على التجارة والاستثمار؛ ما يُهدد بتقسيم الاقتصاد العالمي إلى معسكرين متنافسين، وما دفع منظمة التجارة العالمية التي لم تعد تتمكن من احتواء الخلافات بين الدولتين الى أن تعقد مؤتمرا في أبو ظبي، من 30 تشرين الثاني إلى 3 كانون الأوّل 2023, في محاولة منها لاستعادة الثقة في النظام التجاري متعدد الأطراف، والقيام بإصلاحات للم قواعد التجارة العالمية في اكبر اقتصادين في العالم.


في كل الأحوال، لا تزال تكنولوجيا الكم في مراحلها الأولى، لكن من الواضح أن التفوّق الصيني يشكّل تهديدًا خطيرًا لمستقبل الولايات المتحدة التي قد تفقد هيمنتها على التكنولوجيا العالمية وتصبح عرضة للاختراقات من قبل الصين.



في النهاية، قد يُؤدي صراع التكنولوجيا الكمومية إلى حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، فلا بد للولايات المتّحدة أن تزيد استثماراتها في هذا المجال، وأن تسعى إلى التعاون مع الدول الأخرى، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان، لتطوير تكنولوجيا الكم بشكل مشترك إذا أرادت أن لا تفقد هيمنتها على التكنولوجيا العالمية، وان تسيطر على مستقبل العالم.


أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة