باسمة عطوي

أسباب اقتصادية لتفشّي التعاسة في لبنان

22 آذار 2024

02 : 00

  • جورج ساروفيم: عرقلة وشلّ الدولة وانهيارها تؤدي إلى شعور اللبنانيين بأنهم غير قادرين على الإنجاز ما يولّد إحباطاً وانخفاضاً في مؤشر السعادة لديهم
  • جمانة عنتر: شرائح واسعة تشعر بعدم السعادة لأن الحاجات الأساسية غير مؤمّنة وفي حال وجودها فهي مهدّدة بالانقطاع وتزداد التعاسة عند المقارنة مع دول أخرى
  • مأمون طربيه: السعادة عند اللبنانيين مرتبطة بالمال والصحّة ومقوّمات العيش الكريم وهذه العناصر الثلاثة غير متوفّرة بشكل كافٍ لشرائح واسعة من المجتمع


ليس صدفة أن يحتلّ لبنان المرتبة 142 في قائمة مؤشر السعادة، الذي تصدره الأمم المتحدة وشمل هذا العام 143 دولة. فالتغييرات الهائلة التي طرأت على حياة اللبنانيين منذ الانهيار في العام 2019، وما رافقه من تبخّر للودائع وتضخّم هائل في أسعار السلع والخدمات، وضمور القيمة الشرائية للرواتب وازدياد معدل البطالة، وتلكّؤ المنظومة الحاكمة على مدى أربع سنوات في إيجاد الحلول للخروج من الأزمة، ناهيك بحالة الشلل الاقتصادي الإضافي الذي يعيشه اللبنانيون منذ بدء المواجهات في جنوب لبنان منذ 7 تشرين الأول 2023... كلها عوامل تجعل معظم اللبنانيين في أتعس حالاتهم، وإن كان هناك من يروّج بأن «اللبناني جبّار قادر على التأقلم مع الصعوبات والدليل هو امتلاء المطاعم بالروّاد». إذ إن المعايير التي تعتمدها الأمم المتحدة لتصنيف الدول إذا كانت شعوبها سعيدة أم لا، هي إجمالي الناتج المحلي للفرد والحياة الصحية المتوقّعة، والدعم الاجتماعي الذي يتوقّعه النّاس في حال وقوعهم في مشكلة ما، وحريّتهم باتخاذ القرارات في حياتهم الخاصة، وشعورهم بمدى تفشّي الفساد في مجتمعاتهم ومدى كرمهم.

تطبيق هذه المعايير على أرض الواقع تظهر بأن اللبنانيين في أغلبهم تعساء، وعند استفتائهم يحدّدون تاريخ سيطرة الهموم عليهم بعبارة «منذ بدأت الأزمة». وكلّ منهم يروي تفاصيل التعاسة التي يشعر بها بحسب فئته العمرية والمستوى الإقتصادي الذي يعيشه، واهتماماته الشخصية والمسؤولية الملقاة على عاتقه.

حيرة يومية

تقول مريم حرب (62 عاماً) عن أحد أسباب تعاستها، بأنها تحتار يومياً كيف تتدبّر أمر عائلتها في ظلّ راتب زوجها المحدود (متقاعد من الجيش اللبناني)، وأنها تكلّم نفسها عند بائع الخضار حين تجد أن سعر كيلو الخيار 100 ألف ليرة مثلاً، فضلاً عن «سمّات البدن» في الأسبوع الأوّل من كلّ شهر مع فواتير الكهرباء واشتراك المولّد الخاص».

وتختم: «كيف أكون سعيدة وأنا أضطر وأنا في الستينات من عمري، للمشي مسافات طويلة لأوفّر كلفة المواصلات، أو أنتظر ابني ليوصلني على درّاجته، بدل أن أعيش بشكل محترم أنا وزوجي من معاشه التقاعدي؟».

مجدرة وبس

الشعور بالتعاسة لا يقتصر على البالغين، بل على اليافعين أيضاً، فالصبية إلينا -م غير سعيدة لأسباب عدة، بحسب ما تقول لـ»نداء الوطن»، «السبب الأول هو تغيير مدرستها الخاصة الى مدرسة رسمية، لأن والدتها لم يعد بمقدورها تأمين الأقساط بعد الأزمة، منذ 2019 تحوّلوا جميعاً (هي وأخوتها) الى حبيسي البيت لا يعرفون كيف يقضون وقتهم، بعدما افتقدوا إلى وسائل التسلية المكلفة، ولم يعد باستطاعة والدتها أن تأخذهم في مشاوير نهاية كل أسبوع وشراء الثياب دورياً كما جرت العادة من قبل».

وتختم: «ظروف والدتي لا تسمح، فهي غير قادرة إلا على تأمين الأساسيات، عليّ أن أتناول المجدرة التي لا أحبّها وأتوقف عن طلب الأطعمة الجاهزة».

أين وديعتي؟

بالنسبة للصيدلانية غنى-ح «التعاسة هي أن تتحوّل الى آلة تردّد أمام مرضاها ثلاث عبارات حين يطلبون دواءً معيناً (مقطوع، مدعوم، وبديل) وأن تضطر الى صرف اثنين من موظفيها وأن تتقاسم الدوام مع صيدلي فقط لتخفيف مصاريفها التشغيلية. وأن تضطر أيضاً للاستغناء عن العاملة المنزلية لأنها تريد إكمال تعليم أولادها في الجامعات الخاصة».

تضيف: «أفكر كل يوم في مصير وديعتي في المصرف، التي عملت أنا وزوجي 25 عاماً لتجميعها لضمان حياة كريمة لنا بعد تقاعدنا، والى الآن لا مؤشر إيجابي بل على العكس لا حلول في الأفق، بل مجرّد مراوغة وكذب على المودعين».

وتختم: «كيف يمكن للشعب اللبناني أن يشعر بالسعادة وهو مضطر لتأمين بديل الكهرباء والمياه، والركض على أبواب الصيدليات لتأمين الدواء، وقد سبق له الوقوف في طوابير لا تنتهي أمام الأفران ومحطات الوقود؟».



جورج ساروفيم



«إزالة التحسّس»

في التفسير النفسي لعدم شعور اللبنانيين بالسعادة، بالرغم من أنهم شعب يتقن التكيّف مع المصاعب وبالرغم من تمسّكه بفسحات الأمل، يشرح جورج ساروفيم (أخصائي نفسي-عيادي ) لـ»نداء الوطن» أن «السعادة ليست كلمة علمية، بل فلسفية وشاملة وواسعة. وعندما نناقش تدني مؤشر السعادة فهذا يتوجّب ربطه بمشكلات القلق والاكتئاب. ومن المعروف في مجتمعاتنا وما نلاحظه في عياداتنا واجتماعاتنا، أن هناك ارتفاعاً حاداً في الاكتئاب والقلق في لبنان».

يشدّد ساروفيم على أن «لبنان بات مجتمعاً استهلاكياً وهذا ما يؤدي الى»إزالة التحسّس»، وهو مفهوم نفسي يحدّد كيفية عمل الدماغ، بمعنى أن من يعتاد أمراً ما يصبح مع الوقت يريد جرعات أكبر منه، تماماً كمدمني المخدّرات. هذا ما ينطبق على اللبنانيين تجاه الاستهلاك، أي أنهم يتطلبون المزيد في ظل قدرات محدودة ما يسبّب انخفاضاً في مستوى السعادة لديهم، خصوصاً أن الاقبال على مزيد من الاستهلاك يترافق مع شعور بقلة الصبر ما يعرّضهم أكثر للاضطرابات النفسية»، لافتاً الى أن «الأوضاع الاقتصادية السائدة في لبنان والتي لا تسمح للبنانيين بتلبية طموحاتهم الشخصية (الزواج وتأمين حياة كريمة)، تولّد إحباطاً لديهم وتؤدي الى انخفاض مؤشر السعادة. كما أن العلاقات الاجتماعية السائدة وتفكّك العائلات يساهمان في تراجع الصحّة النفسية، فكلما كان هناك استقرار عائلي سجل مؤشر السعادة لدى الاشخاص نسباً أعلى لأن الإنسان هو كائن اجتماعي».

ويختم: «في لبنان ليست هناك إمكانية للفرد المظلوم لاسترداد حقه عبر القضاء، فعرقلة وشلّ الدولة وانهيارها تؤدي الى شعور اللبنانيين بأنهم غير قادرين على الإنجاز، ما يولّد إحباطاً وانخفاضاً في مؤشر السعادة لديهم».



جمانة عنتر



المقارنة بالآخرين

من جهتها، تشرح جمانة عنتر (اختصاصية نفسية عيادية) لـ»نداء الوطن» «بأن تعريف السعادة على الصعيد الفردي يختلف بين شخص وآخر، ومرتبط بالخبرات الشخصية والتجارب ووجهات نظر كل فرد على حدة. وبالتالي يتحدّد شعور السعادة لدى كل فرد بحسب النقص الذي يعانيه ومن تجاربه الخاصة وما يودّ الحصول عليه».

تضيف: «على صعيد المجموعة، يتبلور لدى الأشخاص معنى السعادة من خلال مقارنة أنفسهم بالآخرين، أي بمحيطهم الصغير والأكبر كبلد وبين بلدهم وبلد آخر. وهذا يعني أن تحقّق الشعور بالسعادة يتطلّب شروطاً أعلى كلما كانت المقارنة مع الآخرين أكبر، لأنه فرد يعيش ضمن مجموعة ويسعى ويلاحظ ويقارن نفسه بها»، مشيرة الى أنه «على صعيد علم النفس تتحقّق السعادة بقدر ما يستطيع الفرد خلق توازن بين مشاعره، سواء سلبية أم ايجابية، أي فهمها والتعبير عنها وفهم مشاعر الآخرين، والى أي مدى يعرف معنى التجارب التي يعيش فيها وقيمة وجوده»، وتجزم بأن «المجتمع اللبناني يشعر بعدم السعادة لأن الحاجات الأساسية غير مؤمنة وفي حال وجودها هي مهدّدة بالزوال. إذ إن أغلب الحاجات الأساسية ليس هناك ثبات في تواجدها (كهرباء /إنترنت/ محروقات/ الحصول على الأموال من المصارف)، وهذا ما يسبّب للبنانيين القلق ويؤدي الى الحزن».

وتختم: «كما أن المقارنة مع المجتمعات الأخرى حيث المستوى المعيشي أفضل، ستؤدي الى الإحساس بالتعاسة وعدم الانتماء، ناهيك بأن وضع البلد الأمني وعدم معالجة المشاكل يزيدان من الشعور بالتعاسة».



مامون طربيه



الضغوط المعيشية

على ضفة علم الاجتماع يفسّر الدكتور مأمون طربيه (أخصائي اجتماعي) لـ»نداء الوطن» أن «مفهوم السعادة هو أرقى خير يمكن أن يصله الإنسان بجهده، وهذا يعني أن هناك معايير يجب أن تتوفر حتى يكون المرء سعيداً، ومنهم من يرى السعادة في المال والعلم والصحة وتوفر وسائل الرفاهية والمسكن والسفر وعيش حياة كريمة».

يضيف: «ما يدفع اللبناني للشعور بأنه غير سعيد بناءً على المعطيات التي ذكرتها الأمم المتحدة، له علاقة بعامل الرضى عن الحياة. أي أن هناك علاقة طردية لدى اللبناني بين مؤشر السعادة ومؤشر الرضى عن الحياة، لأن هذا العامل له علاقة بالعمل والزواج والصحة ومقدار تحقيق اللبناني طموحاته حين لا تكون متوفرة بالشكل الأمثل والعمل المريح»، مشدداً على أنه «بسبب الضغوط المعيشية يضطر اللبنانيون الى العمل في مهن لا تتوافق مع مكانتهم، وهذا ينعكس سلباً على مفهوم السعادة لديهم، ويدفعهم إلى الإحساس بعدم الاستمتاع بعملهم بل يريدون تأمين مدخول مالي».

يشير طربيه الى أن «هناك العديد من اللبنانيين الذين ليس لديهم القدرة على الارتباط، وتكوين حياة أسرية تعطي نوعاً من السعادة للإنسان، وهذا ما ينعكس سلباً على الرضى عن الذات ويدفعه للشعور بالتعاسة. كما أن هناك لبنانيين يعانون صحياً ولا يمكنهم تأمين العلاج وهذا يدفعهم الى عدم الرضى عن حياتهم»، جازماً أن «الأهم هو مقدار تحقيق الطموحات وهو مؤشر له علاقة بالسعادة والرضى عن الحياة، فحين يشعر اللبناني أنه لا يستطيع تحقيق طموحاته في المجتمع الذي يعاني اليوم اقتصادياً وسياسياً ويعيش في قلق يومي، يفقد الاهتمام في بناء حلم ومشروع وطموح، لأنه لا يعرف إذا كان هذا الطموح سيتهاوى في يوم ما وينعكس سلبياً عليه».

ويوضّح أن «الشعور بالرضى عن الحياة هو المؤشر الأهم للدلالة على سعادة الإنسان، وحين تكون مظاهر ومعايير شعور الرضى عن الحياة لدى اللبنانيين غير مؤمنة كفاية، لذلك هو غير سعيد بالدرجة والمعايير التي تضعها الدول المتقدمة».

ويختم: «السعادة عند اللبنانيين مرتبطة بأمور مادية أولها المال والصحة ومقومات العيش الكريم، وهذه العناصر الثلاثة غير متوفرة في المرحلة الحالية ولذلك يشعر اللبناني بالتعاسة».


MISS 3