يعيش اللبنانيون فراغاً رئاسيّاً منذ أكثر من ستة عشر شهراً. هذا الفراغ لم يكن الأول، فقد سبقه فراغٌ بـ30 شهراً، وقبله آخر بستة أشهر؛ وفي كلِّ مرة قبل أن يصل إلى كرسيِّ بعبدا، رئيسٌ يحمي «ظهر المقاومة». إنها البدعة الجديدة في السياسة اللبنانية، سواءٌ في تعطيل الدستور، أو بوجود سلاح غير شرعي بيد حزبٍ يدّعي المقاومة؛ هذه العبارة الغامضة التي يجهل اللبنانيون مضمونها: مقاومة من، لمن، متى، كيف، وبأيِّ حق؟
تعطيل الدستور لا يحصل في الديموقراطيات الحرّة، إلاّ إذا أصبحت هذه الديموقراطيات، رهينة بيد قلّةٍ دستورية معطِّلة للحياة السياسية، لتفقد هويتها الحرّة وتصبح «أوليغارشية» خاضعة لحكم الأقلية. اللبنانيون اليوم، يعيشون نظاماً أوليغارشيّاً مقنّعاً؛ فلعبة الثلث المُعَطِّل، إبتدعها البعض لتعطيل المجلس؛ ولعبةُ الحق في التغيُّب عن جلسات انتخاب الرئيس بمثابة «فيتو»، تصُبُّ في خانة التعطيل، لتبرير سيطرة الأقلية على الأغلبية؛ وحماية ظهر فئة سياسية مسلَّحة، خارج إطار الشرعية تبقى مطلباً غير شرعي؛ لأن تسلُّح هذه الفئة هو بحدِّ ذاته، عملاً خارجاً عن الشرعية والقانون.
في ظلِّ هذا الفراغ القاتل للبنان وشعبه، لا تكتفي الممانعة بجريمة التعطيل؛ إنما تذهب إلى الإستخفاف بعقول اللبنانيين، عندما تتظاهر بتسهيل البحث عن حلول للفراغ الرئاسي؛ وذلك باستيلاد مرشحين من باطنتها، من خوابيها العتيقة أو دفاترها المنسية، «فرساناً» بدائل عن فارسها الأصلي لحماية ظهر «المقاومة». ومع الإحترام الشخصي لكلِّ هؤلاء، لكنهم يبقون فرساناً عراة من أي تأييدٍ شعبيّ من بيئتهم ومن اللبنانيين جميعاً. فاللبنانيون لا يعرفون شيئاً عن تاريخهم وعلاقاتهم ومواقفهم السياسية من القضايا الداخلية المطروحة، لا يعرفون مواقفهم من السلاح والفساد وطريقة الإنقاذ، كذلك من الأزمات التي تجتاح المنطقة وتعصف بلبنان. تبحث الممانعة عن هؤلاء الغامضين المنسيين الطيّعين لشروطها، بسبب تعريتهم السياسية، أو لأنها اختبرتهم في مكان ما وزمان آخر، ونجحوا بتفوُّقٍ في الإختبار. تبحثُ الممانعة عمَّن يحمي ظهرها، من دون أن تأبه لمن يحمي ظهر لبنان وينقذه من الغرق.
لا يكتفي الفكر الممانع بالبحث عن رئيسٍ مجهول «الهوية»، ليدافع عن السلاح غير الشرعي؛ كذلك مطلوبٌ منه ألّا يتصدى للفساد والفاسدين، لتبقى الجمهورية ضعيفة حيث «الفاجر يأكل مال التاجر»، والعاطل يعيش على خيرات العامل، والمجرم أقوى من القانون، عليه أن يكون أسيراً لمواقف سابقة في تاريخه، أو يسهُلُ تدجينه بنقاط ضعفه العديدة، غير قادرٍ على الإصلاح. باختصار أن يترأس جمهوريةً ويحافظ على ضعفها ليسهل استثمارها من الممانعين، أو من الفاسدين أو من الإثنين معاً. فالجمهورية القوية ليست مطلباً للممانعين بمختلف انتماءاتهم، بالرغم من كونها مطلباً لمعظم اللبنانيين.
هل تعلم قيادات الممانعة أنّ استحضار المرشحين الغامضين من الأدراج العتيقة، فيه استهتار بالرأي العام اللبناني، خاصة المسيحيين وقياداتهم السياسية والروحية؟ وهنا يتساءل المسيحيون: لماذا يكون الحكم مع الأقوى هناك، ولا يكون إلا مع الأضعف هنا؟ لماذا يكون الحكم مع الواضح هناك، ولا يكون إلّا مع الغامض هنا؟ لماذا تُصِرُّ الممانعة على الإستهتار برأي المسيحيين وتمثيلهم بمن لا يمثِّل؟ لأنه لكل لبنان؟ وهل رئيس المجلس ورئيس الحكومة ليسا لكل لبنان؟! لا يا إخوان. فلبنان لا يمكن إنقاذه إلّا بالتوازن بين الفريقين، على يدِ رئيسٍ سياسيٍّ بامتياز، نظيف الكف، واضح الطروحات الداخلية والخارجية، ثابت المواقف؛ يصنع مع الفرقاء الآخرين سلام الأقوياء لإنقاذِ الوطن؛ وهذا متوفر. وعكس ذلك يعني أنّ الآخرين، لا يريدون لهذا اللبنان أن يتعافى، ويفضّلونه جمهورية ضعيفة تؤمن الإستثمار الفئوي. لكن هل يمكن هكذا أن يستمر في الحياة؟
إعتماد التعطيل كمنهجية عند كلِّ استحقاقٍ رئاسي، ومحاولة فرض ضعفاء المسيحيين من قبل الممانعين، في الموقع الأول للدولة، هو بمثابة إهانة للمسيحيين. هنا نقول صراحةً لشركائنا في الوطن: بطروحاتكم المتكررة هذه تسخِّفون الرئاسة، فعلاً لقد هزُلت.
(*) نائب سابق في تكتّل «الجمهورية القوية»